إعداد: محمد سليمان

مقدمة:

تحولت البادية السورية منذ عام 2017 لساحة صراع دولية وإقليمية؛ وخاصة بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وإيران، وذلك عبر وكلاء محليين سوريين، و في تلك البقعة الحدودية الغنية بالنفط والغاز والفوسفات تحتشد مطامع وطموحات، وتُرسم لأجلها خرائط ومخططات، وتتقاطع مصالح بعض الأطراف وتتضارب أخرى، وبين انسحاب أميركي من قواعد عسكرية على الضفة العراقية من الحدود، وتعديل مهام أخواتها على الضفة السورية، وبين طريق بري يمتدّ من طهران إلى بيروت عبر العراق وسوريا، تجد المنطقة نفسها بين براثن صراع طويل ومدمر تتناحر فيه أطراف مختلفة لأجل الفوز بجائزة النفوذ على الشريط الحدودي أو على قسم منه.

الأهمية:

تستمد البادية السورية أهميتها الاستراتيجية من مساحتها التي تشكل تقريبا حوالي ثلث مساحة سوريا، كما أنها تربط سوريا بكل من الأردن والعراق، وتترامى البادية السورية بين سبع محافظات سورية، وتمر بها طرق تجارة وإمداد ذات أهمية استراتيجية، وتسهم قاعدة التنف الأميركية؛ القواعد الإيرانية في البوكمال الدوريات الروسية التي تحاول الوصول إلى الطرق المؤدية إلى المعابر الحدودية، غارات الطائرات المجهولة التي يعتقد أنها إسرائيلية جميعها في رسم مشهد الصراع الدائر هناك مع إعطائه أبعاداً وامتدادات ذات صلة بملفات إقليمية ودولية كبرى.

وعلى الرغم من أن روسيا نجحت في عقد مقايضة مع الولايات المتحدة سمحت من خلالها الأخيرة بسيطرة النظام والميليشيات الإيرانية على معظم البادية وصولاً إلى الحدود العراقية السورية عند منطقة البوكمال، وخاصة بعد تفكيك قاعدة الزلف التابعة للتحالف الدولي التي كانت قاعدة انطلاق لفصائل الجيش الحر باتجاه دير الزور، بينما ما زالت الولايات المتحدة الأمريكية متمسكة بتأمين قاعدة التنف بدائرة قطرها 55 كم.

وإنَّ ما تضمره البادية السورية من تقاطعات ومفارقات يفوق المعلن، ومن الطبيعي وسط هذه المتغيرات جميعاً أن تعيش المنطقة على وقع إرهاصات خطيرة؛ تستشعر مختلف الأطراف بأنها قد تقوض المعادلات القائمة وتمهد الطريق لمعادلات جديدة وخريطة تحالفات مغايرة تماماً، وأنه لا بدّ لهذه الأطراف من الاستعداد لكل ذلك عبر إجراء تغييرات جذرية في أدائها وسلوكها لتكون جاهزة لجميع السيناريوهات المحتملة.

الدوافع والأدوار:

انقلبت الأدوار نوعاً ما في الساحة السورية، فلم تعد إيران هدفاً معلناً للسياسة الأميركية، بل أنها ستتفرغ لهدف وحيد هو “داعش” بعد أن تخلت عن مهمة حماية حقول النفط، وأصبح التصدي للنفوذ الروسي في سوريا يتقدم على غيره في تصريحات مسؤولي الإدارة الأميركية الجديدة، بينما تنتظر تركيا إشارة ودّ من البيت الأبيض قبل أن تعيد الحسابات بشأن علاقاتها بموسكو، وكانت صفقة صواريخ “أس 400” الطعم الذي ألقت به أنقرة لاصطياد الرضى الأميركي، لكن الصمام الكردي لا يزال يحول دون فتح قنوات التواصل بين واشنطن وأنقرة.

  1. الدافع الداعشي:

عاد تنظيم “داعش” ليثبت أنه بات لاعباً رئيسياً في رمال البادية وجبالها وأوديتها، ففي عام 2011 وبعد مقتل قائد تنظيم داعش أبي عمر البغدادي في عام 2010 لم يكن تنظيم الدولة الإسلامية يمتلك أكثر من 700 عنصر تائهين في صحراء العراق، و150 بندقية كلاشنكوف مع 280 ألف دولار أمريكي في بيت مال دفع نصفها للجولاني ليعيد بناء التنظيم في سوريا بعد قيام الثورة السورية، الذي جاء البغدادي ليعلن ولادته الثانية في 2013، وكان من المستبعد جدا أن  يعيد التنظيم المتهالك بناء نفسه ويسيطر على أكبر محافظتين عراقيتين هما الأنبار والموصل، مع محافظتين سوريتين بالكامل هما دير الزور والرقة، مع أجزاء كبيرة من حلب وحمص وحماة والحسكة.

 واليوم يُطرح نفس السؤال: هل يمكن أن نشهد الانبعاث الثالث للتنظيم في البادية السورية من جديد؟ خصوصاً بعد معركة الباغوز في 9 فبراير/شباط 2019 التي أعلن فيها الرئيس الأمريكي ترامب النصر النهائي على تنظيم داعش، ومقتل زعيمه أبي بكر البغدادي ومع تولي الزعيم الجديد أبي إبراهيم القرشي.

يعتمد تنظيم داعش في إعادة تشكيل شبكته الأمنية على عدد من العوامل، على رأسها بيئة عدم الاستقرار في سورية والعراق جراء التهميش الاقتصادي والاجتماعي للحكومات أو لسلطات الأمر الواقع في المواقع الخارجة عن سيطرة تلك الحكومات،كما يساهم في ذلك أيضاً عدم قدرة القوات المحلية على شنّ حملات أمنية مستمرة وطويلة الأمد، أو القيام بعمليات عدّة في وقت واحد، أو تأمين الأراضي التي يتم استعادتها بشكل كامل، وهي التي تفتقد أصلاً إلى قدرات مالية ولوجستية لتغطية التكاليف المترتبة على ذلك، عدا عن غياب التعاون الكافي مع السكان المحليين، حيث يستفيد التنظيم من حالة التوتر وعدم الثقة بين السكان المحليين والسلطات الموجودة، وتتعزّز قدرة التنظيم هذه عندما تشهد المناطق المستهدفة اختلالاً في التوازن بين الأقليات والأغلبية، كأن تكون المنطقة ذات تنوع إثني مثل شرق الفرات الذي يحتوي على العرب والكرد وغيرهم، أو تنوع طائفي مثل مناطق غرب العراق التي تمتلك المجموعات المسلحة الشيعية غير الحكومية نفوذاً كبيراً فيها، وممارسات سلبية في مناطق ذات أغلبية سنية، ويستثمر التنظيم عبر عدد من الوسائل بغية تعظيم العوامل، سواء عبر الدعاية الإعلامية والنفسية عبر أفراده المنتشرين في المجتمعات المحلية، أو استمالة الأفراد عبر دفع الأموال، فالتنظيم ما زال يمتلك أموالاً كبيرة تصل إلى 300 مليون دولار وفق تقديرات صادرة عن الأمم المتحدة في آب 2019، ويعتقد أنه تمكن من إخفائها عبر شبكات تبييض مصرفية وتجارية أو عبر مخابئ سرية، ويُشكّل هذا التحدي عاملاً مهماً بالنسبة لداعش، فهو غالباً لن يلجأ إلى إعادة تشكيل قوته البرية قبل تهيئة الظروف الموضوعية لاستئناف أنشطته العسكرية المباشرة من أجل تقليل التكاليف العملياتية.

ففي مطلع حزيران 2019، كشف التنظيم رسمياً عن نمط عملياته الأمنية عبر صحيفة النبأ ، حينما أعلن عن بدء ما أسماها “غزوة الاستنزاف”، والتي تقوم على توجيه ضربات مستمرة ومكثفة على أهداف متعددة تسبب الضرر لمصالح الحكومة المركزية أو السلطات المسيطرة على كافة المستويات العسكرية والأمنية والاقتصادية، أو تشتت تركيزهم ونظرهم عن أهداف وتحركات أخرى قد يقوم بها، وقد تبدأ هذه الضربات بعمليات صغيرة يُمكن لها أن تتصاعد حتى تصل إلى ضرب البنية التحتية بشكل واسع، وبالتالي فإن التنظيم يهدف من غزوات الاستنزاف إلى توسيع نطاق الفوضى وتشتيت جهود القوات المحليّة حتى تفقد القدرة على ضبطها إلا ببذل جهود كبيرة وتكاليف عالية، بعد أن يقوم التنظيم باستهداف بنوك الأهداف عبر عمليات الذئاب المنفردة أو بالتعاون مع وكلاء محليين لزرع العبوات الناسفة أو عبر قيام الخلايا النائمة بتنفيذ هجمات منظمة أو تحشيد المجتمعات المحلية ضد سلطات الأمر الواقع، وربما تعود تسمية التكتيك الجديد بـ “غزوة الاستنزاف”، إلى قدرة التنظيم على تطوير أساليبه في مناطق انتشار خلاياه أي “الولايات الأمنية”، عبر دمج تكتيكات القتال التقليدية مع نظيرتها غير التقليدية، واعتماد نموذج هجين لحرب العصابات، لا سيما وأنّ داعش ما زال يمتلك مجموعات منتظمة لا مركزية منتشرة في مناطق متفرقة كانت تنشط بشكل عسكري لكنها حوّلت نشاطها على ما يبدو إلى المستوى الأمني، وما يعزز من فاعلية هذا التكتيك هو اللامركزية العالية التي يمنحها التنظيم لتلك المجموعات دون الرجوع إلى القيادة من أجل تنفيذ العمليات على تنوعها.

  1. الدافع الإيراني:

نفذت الفصائل والميليشيات المحسوبة على إيران، عملية واسعة لإعادة الانتشار والتموضع في بعض المناطق السورية، وتزامنت إعادة الانتشار مع تسلم الإدارة الأميركية الجديدة مقاليد السلطة في البيت الأبيض عقب الارتياح الإيراني نتيجة التخلص من الضغوط القصوى التي مارسها عليها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، والشعور بفائضي قوة وثقة يمكنانه من توسيع انتشاره وتعزيز مواقعه، ووصلت القوات المحسوبة على إيران إلى مطار القامشلي بغية الانتشار في مواقع قريبة من القواعد الموجودة فيها قوات التحالف الدولي عموماً والأميركية خصوصاً، وأرسل “حزب الله” اللبناني تعزيزات إلى مدينة تدمر، وافتتحت ميليشيا “فاطميون” مكتب تجنيد في المدينة، ما يزيد من نفوذها في ريف حمص الشرقي، وأفرغت الفرقة الرابعة وميليشيا “الدفاع الوطني” و”الفيلق الخامس” مواقعها وحواجزها في المناطق المحيطة بطريق دير الزور – تدمر، وحلّت ميليشيا “فاطميون” و”حزب الله” العراقي مكانها في أكثر من 13 موقعاً وحاجزاً، كما تشكل البادية السورية الممر البري الواصل بين طهران ودمشق ومنها وصولاً إلى لبنان، ومن خلال السيطرة على هذه المنطقة تضمن طهران التواصل البري بين مناطق نفوذها الممتد من طهران إلى لبنان، والذي تحاول طهران تأمينه من خلال التحالفات مع المجتمعات المحلية والعشائرية، وبناء القواعد العسكرية ونشر المليشيات الموالية لإيران في المنطقة، وتجنيد شباب من نفس المنطقة لحماية المصالح الإيرانية.

كما تحاول الميليشيات الإيرانية التقدم نحو معبر التنف، وتوجيه القوات باتجاه الحدود العراقية في محاولة إيرانية لاختبار الخطوط الحمراء الحقيقية لواشنطن، وأيضاً دفع بعض ميليشيات الحشد الشعبي في العراق نحو الحدود السورية، وقيامهم بالتهديد بدخول سورية، رغم أنهم لم يفعلوا حتى الآن، ويُشكّل الارتباط الجغرافي المباشر ما بين بغداد ودمشق ثم بيروت هدفاً استراتيجياً لطهران، وبالتالي فأنها يمكن أن تُقاتل من أجله مثلما فعلت في حمص وريف دمشق الغربي، ولم تكن الاستراتيجية العسكرية الإيرانية تولي الكثير من التركيز في الفترات الماضية على تأمين هذا الخط الذي لم يعد آمناً منذ عام 2012، إلا أن التغيرات الجيوسياسية الأخيرة، وحسابات ما بعد الرقة ودير الزور دفعت طهران لتغيير أولوياتها على ما يبدو، مستفيدة من الهدوء الميداني الذي وفّره اتفاق وقف التصعيد الأخير، واقتناص الغموض الذي يسود المنطقة لإعادة الانتشار وفق خريطة تتناسب مع أهدافها.

  1. الدافع السوري:

تشكل البادية السورية أهم طريق إمداد له بالنفط والقمح والغاز المهرب من مناطق سيطرة مليشيات PYD في الجزيرة السورية إلى المناطق الداخلية في حلب ودمشق والساحل، والسيطرة عليها بمساحتها الشاسعة الكبيرة ممَّا يعزز أوراق النظام في الدعاية السياسية التي تروج لعودة معظم الأراضي السورية لسيطرة النظام.

تُظهر المعطيات الميدانية حتى تاريخ إصدار هذا التقرير أن جيش النظام وحلفائه لم يصل إلى الحدود السورية-العراقية كما زعم النظام، حيث ما زالت أمامه حوالي 15كم حتى يتمكن من الوصول إلى الحدود، ويمثّل إعلان النظام وصوله إلى الحدود العراقية إنجازاً سياسياً محلياً موجّهاً لجمهوره فقط، حيث يحتاج النظام إلى الظهور كفاعل رئيسي في المنطقة، وأنه يستطيع تنفيذ استراتيجيات عسكرية تحاصر القاعدة الأمريكية، دون أن يحسب حسابات لقوات التحالف، وهي منطقة يُسيطر عليها تنظيم داعش، كما تُظهر أن النظام يتمدد في المنطقة الواقعة تحت سيطرة تنظيم داعش وليس في المناطق التي تُسيطر عليها المعارضة، وأنه يقترب من الحدود من نقطة تبعد حوالي 45 كم شمال شرق معبر التنف، وهي منطقة رملية لا تصلح لعبور المركبات، ويُشير هذا الأمر إلى أن النظام ليس في وارد الوصول إلى طريق بغداد-دمشق الدولي، والذي يمر في معبر التنف الذي يخضع للسيطرة الأمريكية.

كما أن سيطرة النظام المفترضة على مناطق واسعة من البادية هي سيطرة افتراضية، حيث إنَّ النظام- أو أي قوى أخرى- لا يمكن أن تنتشر على كامل هذه المناطق الصحراوية، وبالتالي فإنّ فصائل المعارضة أو حتى تنظيم داعش يمكن أن تستعيد هذه السيطرة إن احتاجت إلى ذلك من خلال معارك محدودة مع المجموعات العسكرية الصغيرة التي تتمركز على بضعة تلال في مناطق شاسعة، وعلى المدى القصير.

  1. الدافع الروسي:

لم تترك روسيا البادية السورية من دون بصمتها، فالمنطقة لها أهمية جيوسياسية تتعلق بطلب روسيا أنهاء الوجود التركي في سوريا، حيث إن استقرار المنطقة ودخولها ضمن مناطق سيطرة النظام سيعززان الموقف الروسي الذي يسعى إلى إخضاع الشمال الغربي من سوريا لسيطرة النظام حيث أنشأت مركز استطلاع في مدينة القريتين في ريف حمص الشرقي، وتقوم بتحضير مركز جديد لقواتها في مدينة تدمر إلى جوار موقع تابع لميليشيات إيرانية، هذا التجاور بين المواقع الروسية والإيرانية شجع البعض على الحديث عن تنافس خفي يدور بين الطرفين. تنافس قد يكون امتزج في السابق برغبة روسية في تنفيذ أجندة دولية تتعلق بإخراج إيران من سوريا بحسب ما ذهبت بعض التحليلات.

بالإضافة إلى مواجهة الوجود الأمريكي في سوريا، حيث خلصت الاتفاقات بين موسكو وواشنطن إلى أن مهمة مواجهة الإرهاب في هذه المنطقة هي مهمة روسيا بالدرجة الأولى، بحسب تقاسم النفوذ الذي أسفر عنه اتفاق لافروف كيري نهاية 2015 بعد التدخل الروسي في سوريا، وإن بقاء تنظيم داعش في هذه المنطقة يجعل من المطالبة الروسية للولايات المتحدة بسحب قواتها من سوريا مطالبة غير منطقية في ظل الفشل الروسي في تنظيف المنطقة من الإرهاب الذي هو من مهمة روسيا بالدرجة الأولى، وبالمقابل فإنّ روسيا تسعى على ما يبدو للقيام بدور الوسيط بين الطرفين الإيراني والأمريكي من أجل التوصل إلى صيغة تفاهم بين الطرفين، وقد أشاد الطرف الأمريكي بما اعتبره الدور الروسي في لعب دور بعدم تشكيل أي تهديد على قاعدة التنف، ويقوم الطرفان الأمريكي والروسي في الوقت الراهن بإجراء مفاوضات تشمل الترتيبات الخاصة بالمنطقتين الجنوبية والشرقية، ويتوقع أن تنتهي المفاوضات إلى اتفاق يُحدّد خريطة السيطرة في البادية، ولا تجد روسيا بديلاً من التمترس وراء سياسة الاحتواء في مواجهة تناقضات المشهد، استعداداً لما يخبئه الصندوق الأميركي من مفاجآت إزاءها.

  1. الدور الأمريكي:

تشكل المنطقة أهمية جيواستراتيجية في مواجهة النفوذ الإيراني، فهي تشكل الحاجز الذي يمكن للولايات المتحدة أن تصنعه لتعطيل المصالح الإيرانية في سوريا، والثقب الأسود الذي يمكن أن يرهق روسيا التي تريد الانفراد بالحل السياسي في سوريا، كما أنها تهدف في الوقت نفسه إلى حماية القاعدة العسكرية في التنف، والتي تقع ضمن جيب عسكري بدائرة قطرها 55 كم، ويحظر البنتاغون الاقتراب منها تحت طائلة التدمير، وتعتبر بمثابة محمية بريطانية أمريكية نرويجية تم إنشاؤها قبل عامين بهدف تدريب بعض فصائل الجيش الحر المدعومة من التحالف بهدف قتال تنظيم الدولة في دير الزور وهو على رأس أولوياتها، ولا يُشكّل تقدم النظام الشكلي في المنطقة أي تهديد حقيقي لها، ويمكن لها أنهاء وجود النظام بشكله الحالي في أي وقت يمثّل تهديداً لها أو للقوات التي تدعمها على الأرض، بالمقابل يشكل التصدي لتنظيم داعش أهميةً خاصة للجانب الأمريكي إلى جانب حماية حقول النفط.

  1. الدافع التركي:

يعتبر الطرف التركي هو الأقل تأثراً من الفاعلين على الأراضي السورية بما يخص البادية باستثناء المخاوف من ولادة التنظيم من جديد، والتي ستعطي المبررات للولايات المتحدة لزيادة تسليح مليشيا PYD بحجة محاربة الإرهاب، وسيعمل كل من النظام وPYD على تمرير خلايا داعش عبر مناطقهما للوصول إلى إدلب ومناطق نبع السلام ودرع الفرات لزعزعة الاستقرار فيها، وربما للتسلسل إلى عمق الأراضي التركية.

الصراع الحالي:

يواصل تنظيم داعش نشاطه في منطقة البادية السورية، ليثبت وجوده الفعلي، خلافا لإعلان قيادة التحالف الدولي لمواجهة التنظيم هزيمته في شهر آذار من العام 2019، ويكمن نشاط التنظيم من خلال الهجمات التي يشنها على قوات النظام وقوات سوريا الديمقراطية كلٌ في مناطق نفوذه، والتي يقابلها عمليات عسكرية مضادة تشنها قوات سوريا الديمقراطية بالتعاون مع التحالف الدولي، إضافة إلى العمليات الأمنية التي تشنها قوات النظام بالتعاون مع القوات الروسية، بهدف مواجهة خلايا التنظيم في مناطق سيطرتهما، وتسعى خلايا التنظيم لاستغلال كل فرصة سانحة لإثارة الفوضى وتنفيذ عمليات الاغتيال والاستهداف التي تعمل من خلالها على إرسال رسالة مفادها أن التنظيم سيظل باقيا،شهدت الفترة القريبة الماضية استمرار نشاط تنظيم داعش في مناطق متفرقة من البادية السورية ضمن مناطق النظام، بوتيرة متصاعدة بالتزامن مع استمرار القصف الجوي الروسي والحملات الأمنية الدورية لقوات النظام والميليشيات الموالية لها والروس،حيث يستمر التنظيم بشن الهجمات ونصب الكمائن واستهدف قوات النظام والميليشيات الموالية لها، كان أبرزها في بادية الرصافة ومحيط جبل البشري بريف الرقة والتي تمكن خلالها من السيطرة على مواقع لقوات النظام لفترة مؤقته ليتمكن النظام والميليشيات الموالية له بعدها من استعادة النقاط التي انسحب منها التنظيم جراء الغارات والقصف الشديد من الحليف الروسي، بالإضافة إلى اغارات ومعارك في محور آثريا، ومحاور أخرى بريف حماة الشرقي، وبادية السخنة، وتدمر بريف حمص الشرقي، وبادية دير الزور فضلاً عن الحدود الإدارية بين الرقة ودير الزور،ووفقاً لإحصائيات فإن تنظيم داعش تمكن من قتل عدد من عناصر قوات النظام والمليشيات الموالية لها ضمن البادية السورية، باستهداف واشتباكات وتفجير عبوات وألغام وكمائن، كما خسر التنظيم العديد من عناصره بقصف جوي روسي واشتباكات مع قوات النظام والمليشيات الموالية لها،وبلغت حصيلة الخسائر البشرية خلال الفترة الممتدة من آذار 2019 وحتى الآن وفقاً لإحصائيات وتوثيقات المرصد السوري، 1578 قتيلا من قوات النظام والمسلحين الموالين لها من جنسيات سورية وغير سورية، من بينهم 3 من الروس على الأقل، بالإضافة لـ153 من المليشيات الموالية لإيران من جنسيات غير سورية، قتلوا جميعاً خلال هجمات وتفجيرات وكمائن لتنظيم داعش في غرب الفرات وبادية دير الزور والرقة وحمص والسويداء وحماة وحلب، فيما قتل 1081 من تنظيم داعش خلال الفترة ذاتها خلال الهجمات والقصف و الاستهداف،وفي حين يحاول النظام السوري-وبدعم كبير من الحليفين الروسي والإيراني-أن يفرض سيطرته على البادية السورية، ولكنها ليست الغاية الرئيسية من المواجهات، هي فقط تقويض نفوذ تنظيم داعش هناك؛ بل حاول النظام مراراً التقدم باتجاه مناطق سيطرة المعارضة نحو معبر التنف الحدودي مع الأردن تحديداً، الذي يعدّ النقطة الفاصلة بين قوات النظام والميليشيات الإيرانية المساندة له، وبين فصائل المعارضة، وأبرزها جيش أسود الشرقية وجيش مغاوير الثورة، وفق اتفاق خفض مناطق التصعيد،وربما تشكل السيطرة الأخيرة للقوات الروسية والسورية على درعا امتداداً للمعركة التي يخوضها النظام السوري وحلفاؤه في البادية، فهو يحاول الامتداد بشكل أفقي على محاور مختلفة تشمل منطقة شرق وسط سورية وجنوبها في محاولة لتوسيع نفوذه ضمن خارطة النفوذ العسكري، لكن قد يصطدم هذا السعي بإرادة التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب الذي على ما يبدو سيمنع النظام السوري وحلفاءه من الميليشيات الإيرانية والطائفية من إمكانية السيطرة على “مثلث التنف” الذي يربط بين الأردن وسورية والعراق،وكان التطور اللافت هو ما قام به الطيران الأمريكي من قصف لتعزيزات لقوات النظام السوري والميليشيات الإيرانية التي تسانده في المنطقة لأكثر من مرة عقب محاولتها التقدم باتجاه منطقة التنف وتجاوز الخطوط الحمراء الأمريكية في المنطقة.

كما إنهَّ لا تقتصر معطيات المشهد في البادية السورية على ما يحدث من غارات للتحالف ضد النظام السوري ومن يسانده، لكن يتعداه ليرتبط بما يحدث بالداخل العراقي، فقد قامت قوات الحشد الشعبي العراقي بالانتشار على الحدود السورية العراقية، لزيادة الضغط على تنظيم داعش من الجهة العراقية ولحماية الحدود من تسلل أي عناصر له، وقد أحدث هذا الأمر تخوفاً لدى الكثيرين من إمكانية دخول قوات الحشد الشعبي ومشاركتها في معارك البادية إلى جانب النظام السوري، تلك القوات التي تتهم بشكل مستمر بممارساتها الطائفية، ويبدو أن هذه الممارسات قد أصبحت مصدر فخر للحشد الشعبي كما يعبر عنها القيادي في الحشد “أبو عزرائيل.

أما بالانتقال إلى مناطق التماس مع “الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية”، فتستمر عمليات تنظيم “الدولة الإسلامية” بوتيرة ثابتة نسبياً، وتتمثل العمليات بشن هجمات مسلحة واغتيالات بأشكال مختلفة في مختلف مناطق قسد، وتقابل قسد عمليات التنظيم بحملات أمنية بشكل دوري تقوم بها برفقة التحالف وتطال خلايا التنظيم ومتهمين بالتعامل معه، لكن جميع تلك الحملات لم تأتِ بأي جديد يحمل معه الأمن والاستقرار في تلك المناطق، وسقوط المزيد من الخسائر البشرية وبلغ عدد المقاتلين والمدنيين ممن اغتيلوا منذ شهر تموز 2018 وحتى يومنا هذا، ضمن 4 محافظات، هي: حلب ودير الزور والرقة والحسكة، بالإضافة إلى منطقة “منبج” في شمال شرق محافظة حلب والتي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية 800 شخصاً.

سيناريوهات البادية المحتملة

  • أولاً: أن يبدأ النظام السوري وحلفاؤه بالمرحلة الثانية من معركة البادية والتي -على الأرجح- سيكون هدفها الرئيسي السيطرة على مدينة السخنة الواقعة بالقرب من مدينة تدمر في ريف حمص الشرقي، وسوف يكون على عاتق موسكو تقديم الدعم الأكبر للنظام السوري أكثر من الإيرانيين؛ باعتبار أن القوات الروسية تنتشر بشكل كبير في تدمر، وعلى أي حال فإن سيطرة النظام السوري على السخنة وما حولها سيؤمّن محيط مدينة تدمر ويوسع خط الدفاع العسكري عنها ليحمي النفوذ الروسي في هذه المنطقة.
  • ثانياً: أن تتمكن المعارضة السورية انطلاقاً من التنف من التقدم في ريف السويداء وريف دمشق وكذلك في البادية السورية باتجاه تدمر، وقد حدث ذلك بالفعل، إذ أطلقت فصائل المعارضة هناك معركة “الأرض لنا” في محاولة لاحتواء التقدم الذي أحرزه النظام في المنطقة، وربما تسعى أيضاً إلى قطع الطريق مجدداً بين دمشق والعراق وحينها سيعود النظام السوري إلى المرحلة الأولى مجدداً من معاركه في البادية.
  • ثالثاً: أن يتوصل الطرفان الروسي والأمريكي إلى تفاهم حول تقاسم النفوذ في منطقة البادية، بحيث لا تتقاطع المسارات العسكرية للنظام وحلفائه الإيرانيين مع مسارات فصائل المعارضة المدعومة أمريكياً في تلك المنطقة، وفي هذه الحالة فإنّ الاشتباكات بين فصائل المعارضة وقوات النظام وحلفائها الأجانب ستقتصر على المناطق التي ستترك خارج الاتفاق.
  • رابعا: ولادة ثالثة لداعش والتمدد والسيطرة على البادية ومنها إلى مناطق أخرى على حساب جميع الأطراف مع بعض الأولويات الداعشية في اتجاهات التقدم، بناء على الكثير من المرجحات التي تؤيد هذه الفرضية، ونذكر منها:
    • الخلل في أهدف التحالف الدولي للحرب على الإرهاب: لم تكن الحرب الدولية على الإرهاب حرب استئصال وأنهاء بقدر ما كانت حرب إزاحة عن الجغرافية لمصلحة سيطرة تنظيم PYD، ودفع التنظيم نحو البادية التي شكلت ملاذاً له ليعيد هناك تنظيم صفوفه ويعيد ترتيب استراتيجيته، وهذا ما كانت تشير إليه عمليات الانسحاب التي نفذها التنظيم في حربه مع التحالف الدولي تجنباً للخسائر والاستنزاف.
    • قدرة التنظيم على التجنيد وإعادة ترتيب الصفوف: إن وفرة العنصر البشري لدى التنظيم خصوصاً من الشباب الملتحق بالتنظيم من جديد بعد ترتيب صفوفه، ومن مساجين داعش الذين تم الإفراج عنهم من سجون PYD، واليوم يقدر عدد عناصر التنظيم في العراق وسوريا بما بين 2000 و3000 بحسب الخبير بالجماعات المتطرفة غيدو شتاينبيرغ، في حين تحدث السفير الأمريكي الخاص بالتحالف المعادي لداعش جيمس جيفري، في نهاية كانون الثاني المنصرم، عن 14.000 وصولاً إلى 18.000 عنصراً في سوريا والعراق.
    • ضعف مقاومة المجتمعات المحلية للتنظيم: وذلك بسبب وقوع القبائل العربية تحت الضربات الانتقامية لداعش، التي تمنعها من إقامة أي علاقات تحالف مع النظام السوري أو إيران أو روسيا ضد التنظيم خوفاً من انتقامه منهم، وهو ما يعني تحييد المجتمع المحلي عن هذه المعركة، كما أن عدم إشراك المجتمعات المحلية في الرقة ودير الزور في إدارة مناطقها التي تقع تحت تقاسم نفوذ قوات PYD المدعومة أمريكياً، وتحت نفوذ المليشيات الإيرانية والروسية التي تحاول تجنيد أبناء العشائر لمحاربة داعش.
    • ضعف المليشيات الإيرانية والروسية في مواجهة التنظيم: عدم مشاركة التحالف الدولي في الحرب على الإرهاب ضمن هذه المنطقة التي يعتبرها ضمن مناطق النفوذ الروسية والاكتفاء بحماية قاعدة التنف، يجعل من مهمة روسيا صعبة للغاية، حيث تعتمد روسيا على مليشيات ضعيفة من النظام السوري ومليشيات إيران “لواء القدس”، وقوات فاغنر الروسية ومجموعتين من القوات الخاصة الروسية التي تشكل القوة الرئيسية في الهجوم لتحقيق النصر على تنظيم داعش.
    • طبيعة الجغرافية المساعدة على المناورة: إن اتساع منطقة البادية ووعورتها ووجود الجبال والوديان المساعدة على التخفي والمناورة، وعدم قدرة القوات النظامية على السيطرة عليها بشكل كامل، ستعطي التنظيم مساحة واسعة للحركة وتغيير المواقع وتبديل الاستراتيجية باستمرار، خصوصاً أنه لا يتحرك وفق سياسة الاحتفاظ بالأرض.
    • إرهاب القوة المضادة للإرهاب كعنصر مغذٍ لعودة التنظيم: الاعتماد في الحرب على الإرهاب على مكون مرفوض شعبياً هو تنظيم PYD التابع لحزب PKK بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وعلى المليشيات الإيرانية ومليشيات النظام المرفوضة هي الأخرى من المجتمع المحلي، هو ما يجعل المجتمعات المحلية تنظر بعين الريبة إلى الحرب على الإرهاب، واعتبارها حرباً سياسية لتأهيل قوة إرهابية بديلة عن داعش لتتحكم في المنطقة وتسيطر عليها.
    • بيئة الفوضى في ظل غياب الحلول السياسية: غياب الحلول السياسية المقنعة للشعب السوري عموماً ولسكان المنطقة خصوصاً، وتقديم الحلول الأمنية والعسكرية التي من شأنها أن تعالج العرض دون المرض والنتائج دون الأسباب، وهو ما يسمح بترسيخ بيئة سائلة وفوضوية وهشة لا تمتلك أدنى مقومات الصمود الذاتي، وهو ما يجعل المنطقة سهلة السقوط أمام أي قوة مفاجئة.
    • امتلاك التنظيم لشبكات التمويل: فقد أكد تقرير لمعهد دراسة الحرب أن التنظيم احتفظ بشبكة تمويل عالمية ضخمة تصل إلى أكثر من “600 مليون دولار”، مولت عودته مجدداً إلى شن الهجمات العدائية، وكذلك الحفاظ على الأسلحة وغيرها من الإمدادات عبر نظام معقد من الأنفاق التي يخفي بها سلاحه وذخائره.

يبدو من هذه المعطيات أن الظروف مهيأة لعودة تنظيم “داعش” في البادية السورية ولصناعة بيئة صالحة ليعيد التنظيم بناء نفسه، مستفيداً من حالة الفوضى في البادية السورية، وهو الأمر الذي تتجه له الأمور في المنطقة تحت تأثير أسباب عدة، ولكن على الرغم من وجود تأثير لعدة عوامل ذاتية أو خارجية في نشاط التنظيم، فإنه يبدو أن عامل التأثير والاستثمار الخارجي هو الأكبر والأوفر حظاً في عملية ولادة التنظيم الثالثة، التي تدل كل المعطيات على أنها قادمة إن لم تتم معالجة الأسباب المساعدة على توليد الظاهرة من جديد،وتنبغي الإشارة هنا إلى أن سيطرة أي جهة على البادية لا تعني إعاقة مرور المجموعات الأخرى في مناطق سيطرته، ما لم تكن هذه السيطرة مصحوبة بمراقبة جوية محكمة، فعلى مدار السنوات التي كانت البادية تقع فيها تحت سيطرة النظام تمكّنت المعارضة وغيرها من التشكيلات من المرور في البادية بشكل مستمر.

     خاتمة:

المنطقة اليوم أمام صفحة جديدة، وروسيا ليس بمقدورها التماهي مع ما تطلبه بعض الدول نظراً إلى التزاماتها المتعلقة بالمشهد السوري الداخلي، فضلاً عن أنها أصبحت هي نفسها موجودة على أهداف السياسة الأميركية، وإيران لم تدخل إلى سوريا لتخرج بأوامر من هذه الدولة أو ضغوط من تلك، ناهيك بشعورها بأن المرحلة القادمة ستصب في مصلحتها. وسط ذلك تحتاج جميع الأطراف إلى شمّاعة لتعلق عليها تحركاتها والتغييرات التي تجريها بانتظار أن تتضح السياسة الأميركية في الإقليم عموماً، وفي سوريا خصوصاً، وحتى ذلك الحين يبدو أن تنظيم “داعش” سيقوم بدور تلك الشماعة مستغلاً ما تفتحه أمامه السياسة الإقليمية والدولية من ثغرات للعودة إلى المشهد بصفة لاعب لا غنى عنه، مستفيدا من الثغرات التي وقع بها نتيجة التقييم الخاطئ السابق للعديد من العوامل لا سيما ما يتعلّق بطبيعة العلاقات الدولية والاستثمار بها، وقد يلجأ قادة التنظيم إلى اتباع أسلوب هجين خلال النشاط الأمني الذي قد يكون طويل الأمد مقارنة مع الفترة التي سبقت إعلان الخلافة عام 2014، وعلى الرغم أنه لا يبدو أنّ لدى الولايات المتحدة استراتيجية الكاملة للتعامل مع ملف عودة تنظيم داعش أو نشاطه الأمني وسياسته الجديدة المعتمدة على الاستنزاف، وهذا يشمل التعاطي مع ملف المعتقلين الأجانب والمحليين، فإنه ربما لا يزال من المبكر الحديث عن وجود استراتيجية واضحة أو قابلة للتطبيق لدى تنظيم داعش تمكنه من العودة الفعلية والسيطرة على مناطق جغرافية، إلا أنه لا مجال للشك أنه ما يزال يتمتع بالقدرة على شن عمليات أمنية (أو ذات طابع أمني استخباراتي) محدودة في مختلف المناطق التي كان مسيطرا عليها في السابق أو التي لا يزال يملك فيها خلايا أمنية،كما أنه من شأن قدرة داعش على تطوير أساليب عملياته الأمنية وسياساته الإعلامية والمحلية أن يثير مزيداً من الحذر لدى الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، لا سيما من ناحية إعادة تجربة طالبان في الصعود مرّة أخرى بعد أنهاء الإمارة الإسلامية عام 2001، ذلك بصرف النظر عن التباين في العنف والأدبيات والتعامل مع السكان.

 

إعداد الباحث : محمد سليمان