مقدمة:

شكّلت التصريحات التركية الاخيرة صدمة كبيرة لدى الشارع السوري في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة بوصفه الحليف الإقليمي الأبرز للثورة السورية، وذلك إثر تصريح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في 11 آب 2022 عن إجرائه محادثة قصيرة مع وزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد، على هامش اجتماع دول عدم الانحياز في العاصمة الصربية بلغراد في تشرين الأول 2021، وأعلن أوغلو أن الرؤية التركية للسلام في سوريا تمرّ عبر إجراء “مصالحة” بين المعارضة والنظام، وفي السياق ذاته جاءت تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد أيام أن بلاده لا تهدف إلى هزيمة بشار الأسد في سوريا وقال: “يتعين الإقدام على خطوات متقدمة مع سوريا من أجل إفساد مخططات ضد المنطقة”، وأثار هذا الموقف التركي ردود فعل كبيرة، حيث شهدت المناطق المحررة في الشمال السوري مظاهرات مندّدةً بفكرة المصالحة مع نظام الأسد ومطالبةً بإسقاطه، ومؤكدةً ضرورة محاسبته على جرائمه التي ارتكبها بحق الشعب السوري، كما أصدرت مختلف قوى الثورة والمعارضة بيانات تؤكد في مجملها التمسك بتطبيق القرارات الدولية وإسقاط نظام الأسد.

أثارت هذه التصريحات وما تلاها من مواقف وتطورات سياسية حالة من القلق والاضطراب لدى الشارع السوري في المناطق المحررة وايضا بين اللاجئين في دول الجوار وبالاخص المتواجدين على الاراضي التركية، وتحول لناقوس خطر في أعين الكثير من السوريين الذين راحوا يطالبون بإيجاد حلول جذرية للحالة السورية، ومتسائلين في الوقت نفسه عن مآل هذه التطورات وتأثيرها المباشر في الملف السوري، وعن الأدوات والوسائل التي يمكن استخدامها لتعطيل مسار التطبيع مع نظام الأسد.

سنناقش في هذه التقرير التصريحات التركية الاخيرة وامكانية التواصل مع نظام الاسد، بالاضافة الى دوافع هذا القرار، والسيناريوهات التي يمكن أن يؤول إليها قرار الانفتاح، وسبل التعاطي معها.

الدوافع التي حدت بتركيا لتغيير موقفها من نظام الأسد:

1-      التكيُّف مع المتغيرات الدولية:

عقب انقضاء نحو أحد عشر عاماً من انطلاق الثورة حصلت العديد من المتغيرات الدولية، وكان لها تأثير كبير في القضية السورية ككل وفي المواقف الإقليمية المختلفة بما فيها تركيا من القضية السورية، وهو الأمر الذي يمكن اعتباره طبيعياً نظراً لطول أمد الازمة السورية التي تحتمل بطبيعتها تغيراً في المشهد الدولي، وبطبيعة الحال فإن العلاقات الخارجية للدول ترتبط بالمصالح، وهذه المصالح متغيرة، وكانت أولى هذا التغييرات الكبرى التدخل الروسي العسكري في سوريا، فقد مثّل تدخلاً لقوة عسكرية عالمية لمساندة نظام الأسد ومنع سقوطه، وهو التدخل الذي نجح من حيث النتيجة في حسم المعادلات القائمة على الأرض، وأوجد قواسم مشتركة مع الموقف الأمريكي في سوريا من جهة منع وصول الإسلاميين إلى السلطة، ومنع انهيار نظام الأسد، واحتواء التدخل الإيراني العسكري في سوريا؛ مما أدّى إلى تسليم أمريكي بالدور الروسي في سوريا، وترافق هذا التسليم الأمريكي مع تغيُّر كبير في المزاج العام الدولي تجاه نظام الأسد، وذلك بفعل وجود “فزّاعة” تنظيمات إرهابية في مقدمتها “داعش”، حيث تتجه الكثير من الدول للقبول بنظام الأسد نتيجة “وجود الإرهاب وعدم وجود بديل مقبول عنه”، وبذلك أصبح غالب المزاج الدولي رافضاً لفكرة سقوط النظام.

مع التراجعات العسكرية بفعل العوامل السابقة، ومع غضّ النظر الدولي عن إسقاط مدينة حلب تهيأت الظروف أمام تركيا لجعلها تسهم في إطلاق مسار أستانا وما تلاه من سلسلة نتائج عسكرية وسياسية، أسهمت فيها سياسة “إدارة الأزمة” التي انتهجتها الإدارة الأمريكية، والتي ركزت عملياً على مكافحة “داعش”، وبالتالي دعم “قسد” شريكاً أساسياً لها في الحرب على الإرهاب، من دون الانخراط بشكل فعلي للضغط على الأطراف لتطبيق الحل السياسي المنصوص عليه في بيان جنيف1 ثم قرار مجلس الأمن 2254، والاكتفاء بسياسة “العقوبات الاقتصادية” من أجل الضغط على نظام الأسد وحلفائه لتغيير سلوكهم، وفي هذه الأثناء وبعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 تموز عام 2016 بدأت التغييرات الكبيرة في المشهد التركي عموماً ، والتي أدت لزيادة تقارب تركيا مع كل من روسيا وإيران، في مقابل التوتر مع الغرب عموماً، لاسيما مع دعم الأخير لمشروع “قسد” الذي يمثل تهديداً لأمن تركيا القومي، وللمصالح الاقتصادية الكبيرة لتركيا مع كل من روسيا وإيران.

من جانب آخر جاءت أزمة فايروس كورونا والأزمة الاقتصادية المرافقة، والتي انعكست بشكل مباشر على مستوى الاهتمام الإعلامي والشعبي بالتطورات في سوريا، وانخفاض مستوى مساهمة الدول والمنظمات الدولية في تقديم مختلف أوجه الدعم للشعب السوري، وانكفائها نحو ملفاتها الداخلية وهذه الازمة الانسانية.

كذلك جاءت الحرب الأوكرانية لتصبح لها الأولوية على مختلف المستويات، وفي مقدمتها الإنسانية والسياسية، ولتجد تركيا في ذلك فرصة مناسبة لإعادة التموضع في الشمال السوري، بما يحقق لها مكاسب إضافية في محاصرة مشروع “قسد”، عبر عملية عسكرية لم تستطع حتى الآن أخذ ضوء أخضر للقيام بها مما دفعها للبحث عن بدائل.

في ظل هذا السياق الدولي، ومع زيادة التنافر الغربي التركي عموماً، ومع تجاهل الولايات المتحدة لمطالب تركيا الأمنية في سوريا، فإن تركيا تقترب على ما يبدو بخطوات أكثر جدية من المحور الروسي الصيني، وهو ما تطلب منها مراعاة السياسات الخاصة بالقطبين في سوريا -وهما الحليفان الدوليان لنظام الأسد- للحصول على امتيازات أخرى وتعزيز العلاقات.

2-      التموضع مجدداً في النظام الإقليمي:

بعد سنوات من المشاكل الإقليمية التي عاشتها تركيا على خلفية مواقفها من “الربيع العربي”، ومن ملفات عديدة في مصر وسوريا وليبيا والأزمة الخليجية والقضية الفلسطينية، فإننا نشهد مؤخراً توجُّهاً تركياً للعودة نحو سياستها المعلنة السابقة تحت مسمّى “صفر مشاكل”، فقامت بالتقارب مع مصر ثم مع السعودية والإمارات ومؤخراً مع “إسرائيل” ، وقد فرضت المتغيرات في السياق الإقليمي نفسها بقوة على السياسات التركية، فتلاشي الأنظمة التي أتى بها الربيع العربي، وازدياد الضغوط الاقتصادية على تركيا، وظهور مؤشرات لإعادة اصطفاف إقليمي مترافق مع تراجع الحضور الأمريكي في المنطقة، كل ذلك أسهم في اتخاذ تركيا خطوات لإعادة تموضعها في الإقليم لتحقيق مصالح متعددة، خصوصاً في الجانب الاقتصادي، كون الأسواق العربية المـُستـَهـلـِكة تـُعد البديل الأفضل لتصريف المنتجات التركية، لحاجتها إليها أولاً، ولقربها منها جغرافياً ثانياً، ووفرة الأموال العربية التي من الممكن أن تجد المكان المناسب لها للاستثمار في البنوك التركية.

3-      التقدم في ملف إعادة اللاجئين السوريين في تركيا:

مع تفاقم الأزمة الاقتصادية الداخلية في تركيا نجحت أحزاب المعارضة في إدراج ملف اللاجئين السوريين ضمن ملفات الاستقطاب السياسي، مما كان له الأثر الأكبر في تحويل هذا الملف من بُعده الإنساني إلى مادة للصراع السياسي بين الأحزاب التركية والرأي العام التركي، وبذلك استطاعت الأحزاب المعارضة التركية تحريض الشارع التركي على اللاجئين وسياسات العدالة والتنمية اتجاههم، وجعلت من المزاج العام معادياً لهم، وترافق ذلك مع دعم بعض الأحزاب لفكرة المصالحة مع نظام الأسد بوصفها وسيلة لحل هذا الملف، مع استخدام وسائل حشد عديدة للرأي العام التركي لاستثمار الملف لحسابات انتخابية بكل الطرق المتاحة.

4-      مواجهة التحديات الاقتصادية وضرورة فتح آفاق جديدة:

يشكل العامل الاقتصادي عاملاً مهماً ومؤثراً في السياسات التركية، فقد تعرّض الاقتصاد التركي لأزمة كبيرة منذ عام 2018 ترتب عليها تراجعٌ في سعر الليرة التركية، وارتفاع أرقام التضخم لمستويات قياسية، وهو ما تعزز بفعل أزمة كورونا، إذ كانت تركيا من أكثر دول العالم تأثراً بها، خاصة مع تضرُّر القطاع السياحي، وهو أحد مصادر الدخل القومي الرئيسة في البلاد، ليستمر الضغط الاقتصادي التركي بعد زوال الأزمة عبر موجة التضخم العالمية الحالية.

5-      التحضير لخوض الانتخابات التركية القادمة:

فرضت خريطة تحالفات الحزب الحاكم “حزب العدالة والتنمية” التي بدأت بالتحالف الرسمي مع حزب “الحركة القومية”، والتحالف غير الرسمي مع حزب “الوطن” المؤيد لنظام الأسد، والذي يلعب دور الوساطة على المستوى السياسي في عدة ملفات إقليمية أبرزها سوريا ومصر، من جانب آخر فإن بعض قوى المعارضة تبنّت خطاب التقارب مع نظام الأسد، ودعت للتطبيع معه وسيلةً للضغط على الحزب الحاكم، في الوقت الذي وقف فيه حزب المستقبل موقفاً مختلفاً، مؤكداً أن الشروط المطلوب توفرها كحد أدنى للتطبيع غير موجودة.

السيناريوهات التركية المتوقعة تجاه نظام الأسد:

1-      التطبيع الكامل مع نظام الأسد:

يتطلب هذا السيناريو تضافر مجموعة من العوامل، أهمها أن تحقق تركيا مصالحها الأساسية في سوريا، وفي مقدمتها مشروعية الوجود العسكري والتعاون الكامل لإنهاء “قسد” ومشروعها، ومن ثم تسهيل مشروع إعادة اللاجئين، وهي مطالب استراتيجية لا تخصّ العدالة والتنمية فحسب، إذ هي حاجات للدولة التركية، في المقابل يتطلب التطبيع الكامل من نظام الأسد تحقيق مجموعة من المصالح الرئيسة، وهي معاكسة تماماً للرؤية التركية، إذ إن انسحاب تركيا العسكري من سوريا أو على الأقل تسليم مواقع مهمة ” معبر باب الهوى وطريق M4- ” يُعد مطلباً أساسياً لنظام الأسد، مما يعني إبعاد أية شرعية عن الوجود التركي في شمال سوريا، إلى جانب مطالبته بدعم تركي اقتصادي مباشر، سواءٌ للالتفاف على العقوبات الغربية أو لدعم ملف إعادة الإعمار، وهو ما لا تستطيع تركيا تقديمه بسهولة نظراً لمخاطر العقوبات الغربية التي تعاني تركيا منها في الأصل، لذلك يبدو نظام الأسد غير متحمس حتى الآن للتطبيع مع تركيا خشيةً من تكاليف التطبيع، وعلى رأسها الاشتباك مع “قسد”، واستيعاب ملف اللاجئين السوريين في ظل الأزمة التي يمرّ بها، فضلاً عن أن أية خطوات تقاربية مع حزب العدالة والتنمية قبيل الانتخابات التركية قد تُستثمر لمصلحة الأخير، مما يسهم في نجاحه فيها على حساب أحزاب المعارضة التي يعتقد نظام الأسد أن التعامل معها سيكون مجدياً له أكثر.

من جانب آخر يحتاج تحقّق هذا السيناريو وجود عوامل إقليمية ودولية مقنعة لتركيا للمضي في هذه الخطوة، منها:

  • انتقال الدول العربية الى مرحلة جديدة من التطبيع مع نظام الأسد، وهو ما يبدو مستبعداً حالياً.
  • تسامح “أمريكي- أوروبي” مع محاولات تعويم نظام الأسد، وهو أيضاً أمر غير متحقق حالياً نتيجة تبعات الحرب الروسية على أوكرانيا، والجهود الأمريكية المستمرة لحرمان روسيا من أي مكسب خارجي يمكن أن يخفف الضغوط الدولية عنه.
  • قدرة روسيا الحليف الأهم لنظام الأسد، ورغبتها في إقناعه بالتجاوب لتحقيق المصالح التركية أو خفض سقف مطالبه من تركيا، حيث يبدو أن هذا العامل ما زال مفقوداً، إذ أثبتت السنوات الماضية وجود هوامش لنظام الأسد للمناورة مع الروس، في مقدمتها الوجود الإيراني.
  • انشغال الروس أنفسهم بالملف الأوكراني.

2-      التطبيع الجزئي مع نظام الأسد:

يتوافق السلوك التركي الحالي مع ما تقوم به الأخيرة عادة قبيل إعادة تطبيع علاقاتها الخارجية، وهي التواصل الاستخباراتي الثنائي الذي تعقبه لقاءات دبلوماسية، كما فعلت تركيا مع الإمارات والسعودية، وهذا يرفع احتمالية الاستمرار في خطوات التطبيع مع نظام الأسد، خصوصاً في ظل وجود توجهات تركية باتخاذ خطوات باتجاه التطبيع، كتصريحات كبار المسؤولين الأتراك بمَن فيهم رئيس الجمهورية، وتغير السياسة الإعلامية لنظام الأسد تجاه تركيا، إلى جانب التصريحات الروسية الداعية لذلك، في هذا السياق ثمّة عوامل تجعل هذا السيناريو محتملاً، منها:

  • نجاح الوساطة الروسية المستمرة منذ سنوات في تحقيق تقارب بين تركيا ونظام الأسد، في مقدمتها: أن متطلبات التطبيع الجزئي بين الطرفين أقل تكلفة عليهما من التطبيع الكامل، إذ يكفي في هذه الحالة أن يسهم نظام الأسد عملياً في تلبية احتياجات تركيا الأمنية عبر الضغط على “قسد” في منبج وتل رفعت، من دون الوصول إلى درجة الاشتباك المباشر
  • أن يستجيب جزئياً لمطالب تسهيل عودة بعض اللاجئين عبر إجراءات تبدو تصالحية ومتوافقة مع القانون الدولي، بغضّ النظر عن مدى فعاليتها والتزام نظام الأسد بتطبيقها، وجزئياً عبر إعادة بعضهم إلى مناطق محددة كنموذج تجريبي
  • تقديم تجاوب محدود مع العملية السياسية، كالتقدم في مسار اللجنة الدستورية، وإطلاق سراح بعض المعتقلين، وتيسير دخول المساعدات الإنسانية إلى بعض المناطق الخارجة عن سيطرته.

في مقابل ذلك يكون المطلوب من تركيا: تنشيط العلاقات الاقتصادية مع نظام الأسد، مثل فتح بعض المعابر، سواءٌ مع المناطق المحررة أو مع تركيا “معبر كسب”، إلى جانب عقد لقاءات سياسية منخفضة، والاتفاق على تخفيف الوجود العسكري التركي في بعض مناطق شمال سوريا، والضغط على قوى الثورة والمعارضة للقبول ببعض الخطوات الشكلية التي يقوم بها نظام الأسد في مسار الحل السياسي المشار إليها آنفاً.

قد يبدو هذا السيناريو مناسباً لكلا الطرفين في الوقت الحالي، حيث إنه يعطي هامشاً جيداً للحزب الحاكم لتنفيذ بعض الخطوات في ملف اللاجئين السوريين، والتضييق على “قسد” في مناطق غرب الفرات، وسحب ورقة الانفتاح على نظام الأسد من يد أحزاب المعارضة، وهي بالمجمل تصبّ في مصلحته في الانتخابات المقبلة، فضلاً عن العوامل الذاتية المرتبطة بالحزب الحاكم نفسه والمتمثلة في برغماتيته العالية التي تمكنه من القيام بمثل هذه الاستدارة الإقليمية، إلى جانب السياق الداخلي في تركيا، فقد أصبح الرأي العام التركي متقبلاً لهذه الخطوة مقابل إعطاء نظام الأسد انتصاراً معنوياً وسياسياً واقتصادياً جزئياً عبر الترويج بأن الدولة الإقليمية الأهم الداعمة لقوى الثورة والمعارضة قد تراجعت عن ذلك لحساب التنسيق والتطبيع معه.

مع ذلك تبقى عوائق التطبيع الكامل نفسها موجودة في التطبيع الجزئي، وفي مقدمتها: فشل جهود تطبيع بعض الدول العربية سابقاً، وعدم الدعم الأمريكي لجهود للتطبيع مع نظام الأسد وإعطاء مكسب سياسي لروسيا في الوقت الحالي، وطبيعة نظام الأسد نفسه في ضعف قدرته بنيوياً على تقديم أية تنازلات سياسية أو أمنية لتركيا، سواءٌ في ملف اللاجئين أو ملف الحل السياسي أو مواجهة “قسد”، فضلاً عن عدم رغبته في تقديم خدمة لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات القادمة، والخلافات العميقة والمواقف المتناقضة بين الطرفين فيما يتعلق بما يريده كلٌّ منهما من الآخر إلى جانب خشية الطرف التركي من أن فتح قناة اتصال على مستوى سياسي رفيع مع نظام الأسد قد ينعكس سلباً عليها، فتخسر أصدقاءها دون أن تضمن كسباً ضد أعدائها.

3-      زيادة التنسيق مع نظام الأسد:

يتمثل هذا السيناريو بما هو واقع حالياً من تنسيق استخباراتي بين تركيا ونظام الأسد مع توسيع دائرته، ولكنْ دون الوصول إلى التطبيع السياسي، ويبدو أن هذا السيناريو هو المرجح على المدى القريب في ضوء عدم وجود توافقات بين الطرفين في الملفات العالقة، كما أشرنا في السيناريوهين السابقين، ولكن هذا لن يحول دون الاستمرار في توسيع العلاقات والتفاهمات الجزئية بين الطرفين، وإن كان دون الوصول إلى التطبيع السياسي، لِـمَا في هذا الأمر من تحقيق لمصالح كلا الطرفين في الوقت الحالي، فبالنسبة إلى تركيا يعطيها هامشاً في اختبار قدرة نظام الأسد ونواياه، ويمهد لسحب ورقة التطبيع من يد المعارضة التي تتمسك بها في مواجهة سياسات حزب العدالة والتنمية في التعاطي مع الملف السوري، وفي المقابل يعطي ذلك نظام الأسد بعض التنازلات من الطرف التركي على مستوى الاعتراف بشرعيته، والانفتاح الاقتصادي غير المباشر عبر المعابر الواصلة بين المناطق المحررة ومناطق سيطرته.

قد لا يختلف هذا السيناريو عن سابقه سوى في قضية تأجيل اللقاءات السياسية بين تركيا ومسؤولي نظام الأسد، وإزاحة ملف الحل السياسي، ومناقشة الوجود العسكري، والانفتاح الاقتصادي المباشر بين البلدين من الطاولة، وما سوى ذلك فثمّة تطابق بين هذا السيناريو وسابقه في إمكانية زيادة التنسيق حول الملفات الميدانية الحالية وملف “مكافحة الإرهاب”.

في هذا السيناريو قد تحصل تركيا على عدم معارضة نظام الأسد لعمليات عسكرية محدودة جديدة ضد “قسد”، وقد يتم فتح المعابر الداخلية بين خطوط التماس بهدف التخفيف عن النظام اقتصادياً وهو ما يدعم الرغبة الروسية في إنجاح إجراءات إدخال المساعدات عبر الخطوط، ثم تكون ذريعة لإنهاء الآلية الدولية الاستثنائية لإدخال المساعدات الأممية عبر الحدود، كما يتضمن هذا التنسيق وقفاً لعمليات الاستهداف في النقاط الساخنة كجبل الزاوية وجبهة تادف، بمعنى آخر يعني هذا السيناريو أن العداء السياسي بين الجانبين سيستمر، ولكن مع تكثيف التنسيق أمنياً، والانفتاح غير المباشر اقتصادياً.

خيارات قوى الثورة والمعارضة لمواجهة التطبيع المحتمل مع نظام الأسد:

على الرغم من الدعوات العربية والدولية لبعض الاطراف لاعادة العلاقات مع نظام الاسد إلا أنه لابد من التأكيد على ضرورة عدم القَبول بهذا الطرح أو التسليم بحتمية مسار التطبيع معه، إذ ما تزال مجموعة عوامل موضوعية تعيق ذلك، منها:  قانون قيصر،  واستمرار رفض الدول الغربية ومعها بعض الدول العربية لمسار التطبيع إلى جانب العوامل الذاتية المرتبطة بقوى الثورة والمعارضة التي ترفض التطبيع مع نظام الأسد على الرغم من حالة الضعف والتبعية التي تعاني منها، إلا أن التطورات السابقة تتطلب من قوى الثورة والمعارضة الاستعداد لجميع السيناريوهات المحتملة، وذلك عبر الاستفادة من نقاط القوة التي تملكها الثورة، إما لوقف مسار التطبيع، وإما لإبطائه أو الحدّ من آثاره السلبية، وفي هذا الصدد يمكن العمل على عدة مسارات:

1-      الحراك الشعبي وآلية استثماره:

بما أن الحراك الثوري عاد جزئياً على أثر الصدمة التي أثارتها التصريحات التركية، فهو مؤشراً على حيوية السوريين واستعدادهم للحراك مجدداً، لكن لا يمكن لهذا الحراك الإسهام في استعادة التعاطف بمفرده، إذ لابد من استثماره وتحويله إلى مكسب سياسي، وهو ما يتطلب وجود قوى سياسية مرتبطة بالحراك بشكل فعلي، وهو ما لم يتحقق حتى الآن، فالمؤسسات الراهنة تعيش حالة من العطالة وعدم الثقة، في ظل وجود نخب متعالية تتهرب أو غير قادرة على مواجهة الاستحقاقات الراهنة، لذلك لابد من التعويل على الحراك الشعبي في تصحيح الوضع الداخلي للانطلاق نحو الخارج، وهو ما يقودنا إلى حتمية استعادة الثقة بين الحاضنة الشعبية والمؤسسات، عبر عدة خطوات :

  • توجيه رسائل للدول تفيد بأن استمرار نظام الأسد سيؤدي إلى مزيد من الهجرة والتوترات الأمنية في المنطقة ودعم التنظيمات الإرهابية، إلى جانب ازدياد تجارة المخدرات، وانتشار العصابات الإجرامية، وبالتالي ستشكل هذه البيئة عامل هدم للاستقرار الإقليمي.
  • المظاهرات المستمرة والمنددة بذلك وكتابة الشعارات بكل اللغات حتى تكون الرسالة قادرة على الانتشار الأوسع، وأن تشكل أداة دبلوماسية موازية.
  • التأكيد والمطالبة المستمرين بإسقاط النظام ورفض التطبيع معه بغية تحقيق بيئة آمنة حقيقية وفق ما نصت عليه القرارات الدولية ذات الصلة، وإبراز المصير البائس والمرعب لمئات العائدين إلى مناطق سيطرة نظام الأسد.
  • توسيع الحراك الشعبي على كافة الاصعدة وعدم الاكتفاء بالمظاهرات فقط عبر” تفعيل المحاضرات واللقاءات الجماهيرية، وإشراك أشخاص ومسؤولين غربيين وعرب مناصرين للقضية السورية” حتى يكون للحملة أبعاد خارجية.
  • تحرُّك السوريين في بلاد اللجوء للوقوف مع إخوانهم السوريين في المناطق المحررة عبر التظاهر والاحتجاج، والتشبيك بين الحراكَين بما يسهم في توحيد المطالب والرسائل إلى الخارج.
  • زيادة كفاءة قادة الحراك وقدراتهم من خلال التدريب والتأهيل.
  • المطالبة بقيادة سياسية جديدة تعبر عن مطالب الشارع وتنقله وتدافع عنه بأمانة أمام المجتمع الدولي.

2-       الاستناد للملف الحقوقي وتفعيله:

يُعد الملف الحقوقي أقوى الملفات التي يمكن للمعارضة الاستناد إليها، إذ يمكن المراهنة عليه جدياً في عرقلة عملية التطبيع الإقليمي والدولي مع نظام الأسد، فقد بلغت انتهاكات نظام الأسد للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان مستوى غير قابل للإنكار أو التجاهل، والتي أضحى معها نظام الأسد مجرم حرب بحسب مئات التقارير والوثائق الحقوقية، يُضاف إلى ذلك حجم التضامن الشعبي والإعلامي في كل دول العالم مع هذا الملف، إلى جانب اهتمام الحركات والمنظمات والقوى المدنية في العالم به، ولذا فإن تحريكه إعلامياً وشعبياً بشكل مستمر كفيل بإحراج الحكومات التي تسعى للتطبيع، فعلى سبيل المثال: أظهر تحقيق “مجزرة التضامن” والفيديو الذي كشف تفاصيل المجزرة المروعة عالمياً مستوى التأييد الذي يمكن أن يحققه الملف للشعب السوري وقضاياه، وبالتالي يمكن تحريك هذا الملف عبر تكثيف حملات المناصرة القانونية، ورفع الدعاوى في المحاكم الأجنبية لتسليط الضوء على جرائم نظام الأسد، وتكثيف جهود التنظيم بين القوى المدنية وذوي الضحايا، والتشبيك العالمي مع القوى المناصرة لتطبيق العدالة، لجعل ذاكرة العالم حية باستمرار حول الجرائم المرتكبة في سوريا.

3-      محاولة التأثير في السياسة التركية:

أسهم الحراك الشعبي الأخير ردا على التصريحات التركية الاخيرة في الضغط على الجانب التركي الذي سعى للتخفيف من حدة الاحتجاجات عبر إصدار بيان توضيحي، إلى جانب لقاء قوى الثورة والمعارضة مع وزير الخارجية يوم 24-8-2022، ومن ناحية أخرى نجد حالياً أن القوى الرسمية غير قادرة في شكلها الحالي، ومع انعزالها عن العمق الشعبي على التأثير في السياسة التركية، كما أنها ارتكبت أخطاء سابقة عديدة، أبرزها: الاصطفاف الحصري مع حزب العدالة والتنمية والابتعاد عن القوى التركية الأخرى، علماً أن القضية السورية مهمة للدولة التركية، وليس لحزب العدالة والتنمية فقط.

حالياً يمكن لقوى الثورة والمعارضة السعي نحو التأثير في السياسة التركية من خلال عاملين رئيسَين:

  • الأول الأمن القومي التركي، بحيث تُظهر أنها هي الطرف السوري الوحيد الذي يحقق ذلك، وبالتالي تدخل في علاقة شراكة مع الدولة التركية للعب دور مؤثر في هذا المجال.
  • الثاني: الرأي العام التركي الذي يخشى من توسع المشروع الإيراني والروسي في سوريا، وبالتالي يمكن استثمار هذه النقطة لبيان مدى ارتباط مصالح الأتراك مع قوى الثورة والمعارضة وتضاربها مع نظام الأسد الذي استجلب الروس والإيرانيين ومكّنهم في سوريا.

4-      تفعيل دور المجتمع المدني واستثمار قدراته:

بعد أن أتاحت الثورة السورية للمجتمع المدني السوري الذي تشكل حديثاً هامشاً من العمل والنشاط، سواءٌ داخل سوريا في المناطق المحررة أو في بلاد اللجوء، فإنه يُفترض بهذا المجتمع أن يأخذ دوره في دعم الحراك الشعبي في الداخل وترشيده وتسويقه أمام المجتمع الدولي، كذلك يمكن للمجتمع المدني بمختلف كياناته ومؤسساته التأثير في الداخل والخارج عبر الحشد والمناصرة، خاصة للملف الحقوقي للتذكير بإجرام نظام الأسد وضرورة محاسبته، وفي هذا الإطار يجب التركيز على إيجاد الوسائل المناسبة لجلب الأسد أمام المحاكم الدولية، بدلاً من السعي لتعويمه وجلبه إلى المحافل الدولية.

خاتمة:

يبدو أن خطوات التطبيع مع نظام الأسد لن تتوقف بغضّ النظر عن النتائج المترتبة عن التطبيع، لاسيما وأن التطبيع تحول إلى مصلحة بحد ذاته، بعيداً عن نتائجه لدى بعض الدول، في المقابل، وكما أشرنا أعلاه فإن قرار التطبيع ليس قدَراً محتوماً، بقدْر ما هو قرار سياسي خاضع لموازنات السياسة ومصالحها، وما يبدو الآن أنه مصلحة قد تتحول إلى عكس ذلك لاحقاً، ففرصة قوى الثورة والمعارضة ليست في منع التطبيع فحسب، بل في عدم استمراره وتوسعه، وتشكل الحرب الروسية على أوكرانيا فرصة مناسبة لمحاصرة نظام الأسد، عبر توظيف المناخ الدولي العام الناقم على روسيا وحلفائها، بما فيهم نظام الأسد.