مقدمة:

دخلت الحرب الروسية على أوكرانيا شهرها الرابع مع غياب الحسم العسكري لصالح أحد الطرفين، لاسيما بعد تقلُّص جبهات القتال وانحسارها على الرقعة الشرقية من أوكرانيا، وايضاً تعثُّر مسار المفاوضات بين الطرفين، هذا المشهد القائم في أوكرانيا يحمل معه بطبيعة الحال استمرار التوتر السياسي، كما يُبقي الباب مفتوحاً أمام تغيرات نسبية في التوازنات القائمة حالياً في المشهد السوري، حيث يشكّل انشغال موسكو في حربها على أوكرانيا فرصة للفاعلين الآخرين في الملف السوري لتحقيق اختراقات عسكرية وسياسية قد تحسّن من أوراقهم التفاوضية، دون الانجرار نحو انفجار شامل للأوضاع، ومع بدء الحرب الروسية على اوكرانيا في24  شباط 2022 ، وفي وقت كانت تشكل سورية أحد أبرز أولويات السياسة الخارجية الروسية عبر تقديم الدعم اللامحدود للنظام السوري وعلى كافة الاصعدة والتي كانت السبب الرئيسي لبقائه حتى الآن، تباينت التحليلات حول مدى انعكاس هذه الحرب على الساحة السورية، وبين إمكانية انحسار الدور الروسي في سورية مع انشغال روسيا بهذه الأزمة والمواجهة مع الغرب، وبين استغلال الروس وجودهم في سورية لتحويل الأخيرة ساحة إضافية لهذه المواجهة، خاصة مع وجود مؤشرات على استخدام الساحل السوري في العمليات العسكرية الجارية في أوكرانيا.

تهدف هذه الدراسة الوقوف على التداعيات المحتملة لاستمرار الحرب الروسية الأوكرانية على المشهد الدولي والسوري بشكل خاص، من خلال رسم صورة موجزة للتطورات الميدانية في الحرب الأوكرانية وانعكاساتها السياسية والاقتصادية على الصعيدين الدولي والإقليمي، بما في ذلك التغيرات التي طرأت على توازنات روسيا مع القوى الإقليمية الأخرى المؤثرة والفاعلة في الملف السوري، والتداعيات المحتملة لاستمرار الحرب على المشهد السوري.

الاسباب والدوافع:

في 21 شباط 2022، زعمت الحكومة الروسية أن قصفاً أوكرانياً دمر منشأة حدودية تابعة لجهاز الأمن الفيدرالي على الحدود الروسية الأوكرانية، كما زعمت روسيا أنها قتلت 5 جنود أوكرانيين حاولوا العبور إلى الأراضي الروسية، بالمقابل نفت أوكرانيا كلا الحادثين، وفي اليوم نفسه، اعترفت الحكومة الروسية رسميًا بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين كدولتين مستقلتين، وفقًا لبوتين، ليس فقط في المناطق التي تسيطر عليها بحكم الأمر الواقع، ولكن الأوبلاست الأوكرانية ككل، وأمر بوتين القوات الروسية بما في ذلك الدبابات بدخول هذه المناطق.

كما أنّ الولايات المتحدة لم تتوقف عن محاولاتها تطويق روسيا وخصوصاً بعد تفكك الاتحاد السوفياتي،حتى أنها لم تتوقف عن محاولاتها لتفكيك روسيا نفسها، فخلافاً لكل التعهدات الأميركية للسوفيات توسَّعَ حلف الناتو شرقاً وضمَ دولاً من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، بالإضافة إلى جمهوريات حلف وارسو السابقة ما يؤكد النيّة المبيته ضدّ روسيا، وخاصة مع استمرار الرفض الامريكي لضم روسيا الى حلف الناتو، وهو ما تجلى واضحا  في العام 2000 حينما سأل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظيره الرئيس الأميركي بيل كلينتون عن موقف أميركا إزاء طلب روسيا الانضمام إلى الناتو، “ولكن دون رد”.

يدور الصراع بين روسيا وأوكرانيا حول عدة ملفات، بعضها كان نتاجاً طبيعياً لتفكك الاتحاد السوفياتي وكانت تتم معالجته بين الدولتين، لكن بعضها الآخر “الأهم والأخطر” كان نتاج سعي غربي وتحديداً أميركي لاستخدام أوكرانيا ضدّ روسيا، وأبرز تلك الاسباب:

  • سعي أوكرانيا للانضمام إلى حلف الأطلسي (الناتو).
  • سعي اوكرانيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
  • إعلان أوكرانيا نيّتها امتلاك سلاح نووي.
  • وضع إقليم دونباس واستياء روسيا من قمع أوكرانيا للسكان الناطقين باللغة الروسية “هم الأغلبية” والذي تصفه روسيا بالعنصري، هذا بالإضافة إلى استمرار أوكرانيا، منذ 8 سنوات، بقصف الإقليم واستهداف المدنيين فيه، وعدم التزامها باتفاقات مينسك.

وفي وقت طالبت موسكو من الغرب ضمانات أمنية بعدم انضمام كييف لحلف شمال الأطلسي “الناتو”، وعدم توسع الحلف شرقا كشرط لعدم التصعيد، قوبِل ذلك برفض اوربي امريكي، ما دفع الرئيس الروسي بوتين للاعتراف رسميا باستقلال منطقتي دونيتسك ولوغانسك عن أوكرانيا، كما أمر بإرسال قوات عسكرية “للحفاظ على السلام” بمنطقة دونباس، وسرعان ما جاء الرد من واشنطن، التي أعلنت فرض عقوبات على مصرفين و42 شركة و5 شخصيات روسية، فضلا عن مشروع خط الأنابيب “نورد ستريم 2” لنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا، لتبدأ بعدها الحرب.

أهداف الحرب:

حدد الرئيس الروسي في بداية الغزو الروسي أهدافه باجتياح أوكرانيا وإقالة حكومتها، منهيا للأبد رغبتها في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو” الدفاعي الغربي لكن هذه الاهداف سرعان ما تم تقليصها ، حيث افترض الرئيس الروسي أن الحرب أو “العملية العسكرية الخاصة”على حد تعبيره ستنتهي بانتصار سريع، كما قال بوتين للشعب الروسي إن هدفه هو “نزع السلاح من أوكرانيا واجتثاث النازية منها”، لحماية أولئك الذين تعرضوا لما وصفه بـ 8 سنوات من التنمر والإبادة الجماعية من قبل الحكومة الأوكرانية، وشدد على أن “احتلال الأراضي الأوكرانية ليس خطتنا، لا ننوي فرض أي شيء على أحد بالقوة”، لكن العمل على الارض كان مغايرا لذلك وفرضت روسيا سيطرتها بقوة وحشية على عشرات البلدات والمدن، ووحدت الأوكرانيين في معارضة احتلالها، وهو ما خفّض من سقف طموحات بوتين ولم يعد يسعى للإطاحة بالحكومة الأوكرانية، واكتفي بأن تصبح أوكرانيا محايدة.

العمليات العسكرية:

نجحت موسكو منذ بدء هجومها العسكري على أوكرانيا في 24 شباط، في زيادة الأراضي التي تسيطر عليها في أوكرانيا فباتت تحتل حوالي 125 ألف كلم مربع تشمل شبه جزيرة القرم والمناطق المحتلة من منطقة دونباس وجنوب أوكرانيا.

وذكرت الرئاسة الأوكرانية أن المعارك حالياً تتواصل في وسط مدينة سيفيرودونيتسك مضيفة أن “الجانب الروسي يواصل قصف البنى التحتية المدنية والجيش الأوكراني في مناطق سيفيرودونيتسك وبوريفسكي وأوستينيفكا وليسيتشانسك”، كما وأعلن حاكم منطقة لوهانسك سيرغي غايداي أن القوات الروسية تدمر منذ أكثر من مئة يوم كل ما كان يميز المنطقة منددا بتدمير أكثر من 400 كلم من الطرق و33 مستشفى و237 عيادة ريفية ونحو سبعين مدرسة وخمسين حضانة.

وعلى الرغم من إعلان الكرملين أن هدف “العملية العسكرية الخاصة” التي أطلقتها روسيا في أوكرانيا كان منذ البداية السيطرة على شرق أوكرانيا فإن هذه التصريحات جاءت فيما يبدو لتغطية الفشل الذريع الذي تعرضت له القوات الروسية في محاولة الاستيلاء على العاصمة كييف، ومع هذا التطور حققت أوكرانيا مكسباً مهماً في الدفاع عن وجودها ضد روسيا، إلا أنه لم يكن كافياً لإنهاء الحرب. كما أن روسيا حققت مكسباً استراتيجياً وعسكرياً مهماً بتأمين الطريق البري بين جزيرة القرم التي سيطرت عليها في 2014 وروسيا، مروراً بقوات الانفصاليين الذين تدعمهم في إقليم دونباس، وركزت روسيا جهدها على دونباس حيث تدور “حرب استنزاف طويلة” بحسب الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ، واتهم القادة الأوكرانيون في الأيام الأخيرة موسكو بالسعي لتحويل سيفيرودونتسك إلى “ماريوبول جديدة”، فهذا الميناء الاستراتيجي على بحر آزوف دمر كليا في القصف قبل أن تحتله القوات الروسية في 20 أيار إثر استسلام أكثر من ألفي مقاتل أوكراني كانوا متحصنين في مجمع آزوفستال الصناعي فيه، كما وتواصل القوات الروسية قصف منطقة دونيتسك ولا سيما سلوفيانسك الواقعة على مسافة حوالى 80 كلم غرب سيفيرودونيتسك.

انتقلت ساحات المعارك من البلدات المدمرة حول كييف، مثل بوتشا وإيربين وتشيرنييف ومدينة خاركيف، ومعها قرى منكوبة تحيط بها مثل فيلخيفكا وروسكا لوزوفا وستاري سالتيف، إلى ميادين المدن الشرقية مثل سيفيرودونتسك وليسيشانسك وليمان، وإن سيطرة الروس على هذه المدن سيقود للسيطرة على منطقة لوغانسك التي تشكل نصف دونباس وبالتالي السيطرة على كامل منطقة دونباس التي يسيطر الانفصاليون الموالون لموسكو على معظم أراضيها وتشكل مدخلاً إلى باقي المنطقة، وقالت السلطات الأوكرانية إن القوات الروسية نسفت جسرا يربط مدينة سيفيرودونيتسك في إقليم لوغانسك بمدينة مجاورة لها في ظل اشتداد حرب شوارع داخل المدينة التي تسيطر روسيا على ثلثيها، وذكر حاكم إقليم لوغانسك شرقي أوكرانيا سيرغي غايداي أن الروس دمروا جسرا على نهر سيفريسكي دونيتس يربط بين سيفيرودونيتسك، وتوأمتها مدينة ليسيتشانسك على الضفة الأخرى من النهر، مما أدى إلى قطع طريق إجلاء محتمل للمدنيين، وعقب نسف الجسر يبقى فقط جسر واحد من بين 3 جسور تربط المدينتين، مما يقلل من عدد الطرق التي يمكن استخدامها لإجلاء المدنيين، أو انسحاب القوات الأوكرانية إلى مواقع على الجانب الغربي من النهر، كما وذكر حاكم إقليم لوغانسك” أن القتال لا يزال دائرا بين القوات الأوكرانية والروسية من شارع إلى شارع في سيفيرودونيتسك، وأضاف أن القوات الأوكرانية ما تزال تسيطر على المنطقة الصناعية ومصنع آزوت للكيميائيات يحتمي به 800 من المدنيين من بينهم 40 طفلا”، وقالت الإدارة العسكرية في لوغانسك إن الجيش الروسي يقصف بشكل مكثف المنطقة الصناعية في المدينة حيث تتحصن القوات الأوكرانية، وسيفيرودونيتسك هي آخر مدينة في لوغانسك بمنطقة دونباس، وستكون خسارتها ضربة إستراتيجية كبرى، ومن شأن انتصار الروس في هذه الجبهة أن يدفعهم خطوة كبرى صوب الاقتراب من أحد أهداف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المعلنة فيما يسميه “عملية عسكرية خاصة”، وباتت القوات الروسية تسيطر على نحو 70% من سيفيرودونيتسك التي باتت مدمرة بشكل كبير جراء القتال العنيف، كما تواصل القوات الروسية قصفها على القرى والبلدات في ميكولايف وريفها، من دون أن تستطيع السيطرة على المدينة، يأتي ذلك في وقت قالت فيه الإدارة الموالية لروسيا في ماريوبول إن ميناء المدينة أصبح جاهزا للعمل كالمعتاد، وتم الكشف عن لافتة جديدة للمدينة بألوان العلم الروسي لتحل محل نصب تذكاري كان يحمل ألوان علم أوكرانيا في الميناء الذي كان يستخدم لشحن البضائع بين أوكرانيا وروسيا، وفيمايلي خريطة توزع السيطرة حتى لحظة اعداد هذه التقرير:

 

يتفوق السلاح الروسي على سلاح القوات الأوكرانية في كل خطوط المعارك شرقاً، وهذا ما كبدها خسائر فادحة، في حين لم يكن يملك المقاتلين الأوكرانيين ما يكفي من الأسلحة أو الصواريخ بعيدة المدى لكي يردوا على هذه النيران، كما أن استخدامهم للأسلحة المتوفرة محدود بسبب نقص الذخيرة، فالسلاح الغربي المتطور الموعود لم يصل ببساطة بالسرعة الكافية لكي يحدث تغييراً في موازين القوى، حيث أن المشكلة في أن الروس يستخدمون دباباتهم الحديثة، وقد تعلموا من أخطائهم، وأصبح أصعب بكثير إحراز نتائج فعالة باستخدام القذائف المدفعية فحسب، ويستخدم الروس “المدفعية الثقيلة والغارات الجوية، وإحدى التكتيكات التي يستعملونها هي دفع المقاتلين الأوكران إلى نقطة معينة يمطرونها بعد ذلك بوابل من النيران، وغالباً ما لا يكون لديهم ما يعينهم على الرد.

الخسائر:

فصّلت وزارة الدفاع الروسية في آخر حصيلة لها ما ألحقته قواتها من خسائر للقوات الأوكرانية منذ بدء ما تطلق عليه “العملية العسكرية الخاصة”، وأكدت إسقاطها 186 طائرة مقاتلة و129 مروحية وتدمير 3386 دبابة ومدفع ومصفحة و328 منظومة دفاع جوي واسقاط 1087 طائرة مسيرة، بالمقابل أعلن الجانب الأوكراني انه تمكن من اسقاط 210 طائرة حربية مقاتلة روسية و175 طائرة مروحية اضافة الى خسائر في العربات القتالية بلغ 3366 عربة و95 مدرعة بالإضافة الى 535 طائرة مسيرة و13 طراد بحري حربي.

فيما تحفظ كلا الطرفين عن الاعلان عن الخسائر البشرية بشكل دقيق حيث قال رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكى إن عشرات الآلاف على الأقل من المدنيين الأوكرانيين لقوا مصرعهم، وفي ماريوبول وحدها، تحدث المسؤولون عن مقتل أكثر من 21 ألف مدني، فيما قال زيلينسكى إن عن عدد القتلى العسكريين ما بين 50 إلى 100 جندي أوكراني يموتون في القتال كل يوم مع إصابة 500 آخرين.

أما روسيا، فآخر أرقام رسمية أطلقتها لقواتها كان في 25 آذار، عندما صرح جنرال لوسائل إعلام حكومية بأن 1351 جنديا قد قتلوا وأصيب 3825 آخرين، إلا أن المراقبين يصرحون بأن الرقم الحقيقي أعلى بكثير، وقال زيلينسكى أن أكثر من 32 ألف من القوات الروسية قد قتل، أكثر مما خسره الاتحاد السوفيتي في حرب أفغانستان خلال 10 سنوات، بينما قدرت الحكومة البريطانية أن روسيا خسرت 15 ألف من جنودها.

كما قتل 32 مراسلًا صحفيًا بحسب مفوضية حقوق الإنسان، وقتل 4 آلاف و169 مدنيًّا بأوكرانيا، بينهم 268 طفلًا، وأصيب 4 آلاف و982 آخرين حتى 1 حزيران، مُرجحة أن الحصيلة الحقيقة أعلى بكثير، وبلغ حجم الدمار جراء القصف المستمر والضربات الجوية المتبادلة مساحات شاسعة من مدن وبلدات أوكرانية إلى أنقاض مدمرًا بنية تحتية بمليارات الدولارات، وقالت اللجنة البرلمانية الأوكرانية لحقوق الإنسان، إن الجيش الروسي دمّر 38 ألف مبنى سكني، وألف و900 منشأة تعليمية، وتضرر 24 ألف كلم من الطرق، وقصف 32 م2 من المساحات السكنية، وتشمل الخسائر الأخرى في البنية التحتية بأوكرانيا، 90 ألف سيارة، و300 جسر لسكك حديدية، و500 مصنع، و500 مستشفى، و350 مُنشأة طبية، وفق تقديرات الرئيس زيلنسكي، وأحصت منظمة الصحة العالمية 296 هجومًا على مستشفيات وسيارات إسعاف وعاملين طبيين بأوكرانيا.

تداعيات الحرب:

دولياً:

على الرغم أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية رفضت إعطاء روسيا ضمانات بأن أوكرانيا لن تنضم لحلف “الناتو”، الأمر الذي فجر الأزمة ودفع موسكو لشن عمليتها ضد كييف، لم تتخذ الدول الغربية بالمقابل أي خطوات لضم أوكرانيا للحلف أو الاتحاد، لأن ذلك يلزمهم بالدفاع عنها والتدخل عسكريا لحمايتها من التدخل الروسي، وبدلا من ذلك اكتفت واشنطن والعواصم الأوروبية بدعم كييف بالأسلحة الدفاعية، وقد أعرب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عن انزعاجه من الموقف الغربي، حين قال في كلمة متلفزة: “تركنا الغرب في مواجهة القوات الروسية وتأكدنا أنه لن يدافع عنا إلا جيشنا”، وأضاف: “سألت 27 من القادة الأوروبيين عما إذا كانت أوكرانيا ستشارك في الناتو، سألتهم بشكل مباشر لكن الجميع خائف ولا أحد يجيب”.

أعلن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن تكليف وزارة الدفاع بتقديم دعم للجيش الأوكراني، وزودت الولايات المتحدة أوكرانيا بالمُسيّرة (سويتشبليد) التي يعتبرها الخبراء “بندقية طائرة”، كما وافقت الولايات المتحدة على إمداد أوكرانيا بأسلحة جديدة منها منظومة “هيمارس” الصاروخية أم 142 عالية الحركة، حيث  أعلن الرئيس الامريكي إن مدى الصواريخ لا يتيح وصولها إلى العمق الروسي، لكن الصواريخ الموجهة عالية الدقة قادرة على ضرب أهداف على بعد 45 ميلاً، أي في عمق نقاط إطلاق النار الروسية، وقال مسؤول أمريكي أن الولايات المتحدة وحلفاء حلف شمال الأطلسي “الناتو” يواصلون تدريب الجنود الأوكرانيين على أنظمة الأسلحة خارج أوكراني، وذكر المسؤول أن حوالي 20 جنديًا أوكرانيًا يكملون تدريباتهم على الطائرة بدون طيار Phoenix Ghost التي قدمتها الولايات المتحدة لأوكرانيا، وأن بلاده تساعد أيضًا في تسهيل تدريب الأوكرانيين على الصواريخ، كما أكدت المملكة المتحدة نيتها إرسال راجمات صواريخ من طراز أم 270 ذاتية الدفع وأميركية صنع يصل مداها إلى 49.7 ميل ومن شأنها أيضاً وضع المواقع الروسية في مرمى الخطر، وسوف تتدرب القوات الأوكرانية في بريطانيا “لتعزيز” آثار الأسلحة حسب تصريح وزارة الدفاع في لندن، كما وافقت الدنمارك على المساهمة بقاذفات ومركبات لأوكرانيا، كما أعلنت الحكومة الألمانية عزمها تزويد أوكرانيا في أقرب وقت، بألف قاذفة صواريخ مضادة للدبابات، و500 صاروخ أرض ـ جو من طراز “ستينغر”، مضاد للطائرات، كذلك، أعلنت بلجيكا وهولندا، عزمهما إرسال أسلحة إلى أوكرانيا، بينها 2000 سلاح آلي، و3 آلاف و800 طن وقود، و50 سلاح مضاد للدبابات ألماني الصنع، و200 صاروخ “ستينغر”، فيما قالت فرنسا، إنها سترسل المزيد من المعدات العسكرية والوقود إلى أوكرانيا.

و قال رئيس الوزراء الأوكراني، دينيس شميجال، في مؤتمر للمانحين بوارسو، إن أوكرانيا تلقّت مساعدات مالية وعسكرية قُدرت بـ 40 مليار دولار، وقد لعبت الأسلحة المتطورة التي سلمتها الدول الغربية إلى القوات الأوكرانية دوراً مهماً في مرحلة الدفاع ضد موجة الهجمات الروسية الأولى، ثم أسهمت بعد ذلك في تطوير كفاءة القوات الأوكرانية في مرحلة الهجوم واستعادة المناطق التي سيطرت عليها روسيا، وقد ازدادت وتيرة الدعم العسكري والمادي بالتزامن مع تحقيق القوات الأوكرانية نجاحاتها ضد القوات الروسية، كما صرّحت الحكومة الأوكرانية إنها بصدد تجهيز مليون رجل وامرأة للقتال، 400 ألف منهم من القوات النظامية و600 ألف من متطوعي قوات الدفاع الميدانية، ولكن ذلك سيستغرق بعض الوقت.

وفي موقف لم يكن مستبعداً، لكن الزخم الذي بدا فيه كان لافتاً، أعلن النظام السوري في الأيام الماضية على لسان “كبار مسؤوليه”، دعمه للغزو الروسي لأوكرانيا، وبينما اعترفوا أولاً بـ “سيادة دونيتسك ولوغانسك” اتجهوا في منحى آخر لربط البلدين بمصطلحات تشير إلى “العدو الواحد” وأن ما يحصل هو “تصحيح للتاريخ”، وقال رأس النظام السوري، بشار الأسد: “ما يحصل اليوم هو تصحيح للتاريخ وإعادة للتوازن إلى العالم الذي فقده بعد تفكك الاتحاد السوفيتي”.

كما فرض الهجوم الروسي على أوكرانيا على الدول الأوربية إعادة النظر في سياساتها المتعلقة بالدفاع والإنفاق العسكري وخططها لتعزيز قدرات جيشها، وكانت ألمانيا من أبرز الدول التي اتخذت خطوات ملموسة في هذا الشأن، ضمن تداعيات الهجوم الروسي وتخلت عن سنوات من السياسات التي لا تضع قدرات الجيش في مقدمة أولوياتها، ووافق البرلمان الألماني، بأغلبية كبيرة على تعديل دستوري يتيح استثمارات بالمليارات لصالح الجيش الألماني، وكشف الصراع الروسي الأوكراني عن نوع جديد من الأسلحة الخفيفة والمنخفضة التكلفة على غرار المسيرة التركية (بيرقدار تي بي 2) التي استهدفت مدرعات ودبابات روسية بدقة بالغة، والتي تتميز بقدرتها على التحليق جوًا لأكثر من 24 ساعة ويمكنها حمل صواريخ خفيفة مضادة للدبابات وقنابل صغيرة لمهاجمة أهداف على السطح.

كما أطلق الهجوم الروسي على أوكرانيا العنان لحقبة جديدة من “الابتزاز والانتشار” النووي، وأكدت واشنطن صراحة أنه من الضروري “عدم الاستخفاف” بالتهديد الذي يمثله اللجوء المحتمل إلى أسلحة نووية تكتيكية أو أسلحة نووية منخفضة القوة، رغم عدم رصد الولايات المتحدة “أدلة عملية” كثيرة على عمليات نشر فعلية لهذه الأسلحة من شأنها التسبب في مزيد من القلق، جاء ذلك عقب إعلان موسكو وضع القوات النووية الروسية في حالة تأهب قصوى بعيد بدء الحرب على أوكرانيا.

انسانياً:

فرّ نحو 7 مليون أوكراني من بلدهم منذ بدء الحرب، وفق بيانات مفوضية شؤون اللاجئين حتى 1 حزيران الجاري، وبحسب المفوضية الأممية، غادر 3 ملايين شخص و690 ألفًا أراضي أوكرانيا إلى بولندا، ومليون إلى روسيا الاتحادية، وأكثر من 587 ألفًا إلى رومانيا، و466 ألفًا إلى سلوفاكيا، وأكثر من 698 ألفًا إلى المجر، و16 ألفًا إلى بيلاروسيا، مُشيرة إلى عودة 2.2 مليون إلى أوكرانيا مع انحسار القتال قُرب كييف وإعادة انتشار القوات الروسية في شرق وجنوب البلاد، ونزوح ما لا يقل عن 7.7 ملايين مواطن إلى مناطق داخل البلاد، بحسب وكالة الأمم المتحدة للاجئين، مما فرض على الدول الأوربية تقديم الرعاية الكاملة وتوفير شبكة أمان اجتماعي للاجئين ومن تعرضوا للعنف في أوكرانيا ولاسيما النساء والأطفال، من جانبها، فتحت اليابان لأول مرة بابها لقبول العشرات من الأوكرانيين المشردين في خطوة لم تحدث من قبل في هذا البلد الذي لم يرحب تاريخيا بطالبي اللجوء.

وتعمل روسيا على تهجير الآلاف من الأوكرانيين من بلادهم إلى مناطق نائية بروسيا، حيث أوضحت المصادر أن روسيا نقلت مئات الآلاف من الأوكرانيين من معسكرات يطلق عليها “معسكرات التصفية” يديرها مسؤولو الاستخبارات الروسية في شرق أوكرانيا إلى روسيا كجزء من برنامج منهجي للإبعاد القسري، وتابعت المصادر أنه تم نقل العديد من الأوكرانيين قسراً إلى مناطق تعاني من الركود الاقتصادي في روسيا، وفي بعض الحالات على بعد آلاف الأميال من منازلهم، وغالبًا ما يُتركون دون أي وسيلة للعودة، وذكرت المصادر أنه على الرغم من أن بعض الأوكرانيين دخلوا طواعية إلى “معسكرات التصفية” كمحاولة للهروب من القتال بدخول روسيا، فقد تم القبض على العديد من الأوكرانيين رغماً عنهم عند نقاط التفتيش وفي الملاجئ، وقالت المصادر وشهود العيان إنهم يحتجزون في ظروف غير إنسانية، ويتم استجوابهم وتعذيبهم في بعض الأحيان، تم إرسال بعضهم عبر الحدود إلى روسيا وإعطائهم وثائق رسمية، وفي بعض الحالات تم إرسال الأوكرانيين إلى جزيرة سخالين، وهي جزيرة بعيدة في المحيط الهادئ في أقصى شرق روسيا، على بعد 10 آلاف ميل من الحدود الأوكرانية.

اتهمت منظمة العفو الدولية روسيا بارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا، قائلة إن الهجمات على خاركيف التي استُخدِمت في كثير منها قنابل عنقودية محظورة أدت إلى مقتل مئات المدنيين، وقالت المنظمة الحقوقية في تقرير عن ثاني أكبر مدينة في أوكرانيا إن عمليات “القصف المتكررة للأحياء السكنية في خاركيف هي هجمات عشوائية قتلت وجرحت مئات المدنيين وبالتالي تشكل جرائم حرب”، وأضافت “ينطبق هذا على الضربات التي نفذت باستخدام (ذخائر) عنقودية وكذلك على تلك التي نُفذت باستخدام أنواع أخرى من الصواريخ غير الموجهة وقذائف المدفعية غير الموجهة”، وقالت منظمة العفو الدولية إن الألغام الأرضية المتناثرة تجمع بين “أسوأ خصائص الذخائر العنقودية والألغام الأرضية المضادة للأفراد”، وقالت دوناتيلا روفيرا كبيرة مستشاري الاستجابة للأزمات في منظمة العفو الدولية “قُتل أشخاص في منازلهم وفي الشوارع وفي الملاعب وفي المقابر وأثناء وقوفهم في طوابير للحصول على المساعدات الإنسانية أو التسوق لشراء الطعام والأدوية”، وأضافت أن “الاستخدام المتكرر للذخائر العنقودية المحظورة على نطاق واسع أمر مروع ويظهر تجاهلا تاما لأرواح المدنيين”، مشددة على أن “القوات الروسية المسؤولة عن هذه الهجمات المروعة يجب أن تحاسب”، يذكر أن روسيا وأوكرانيا ليستا طرفين في الاتفاقيات الدولية التي تحظر الذخائر العنقودية والألغام المضادة للأفراد، لكن منظمة العفو الدولية شددت على أن القانون الإنساني الدولي يحظر الهجمات العشوائية، وذكرت أن “شن هجمات عشوائية تؤدي إلى مقتل أو إصابة مدنيين، أو إلحاق أضرار بأهداف مدنية، يشكل جرائم حرب”.

اقتصادياً:

تُعد أوكرانيا رابع أكبر مصدر للذرة والقمح في العالم، كما تُعد روسيا أكبر مصدر للغاز الطبيعي في العالم، وثاني أكبر مورد للنفط الخام وثالث أكبر مصدر للفحم ومن أكبر موردي الأسمدة، وأدى نشوب الصراع إلى قطع مثل هذه الصادرات ، كما تسبب في خلق حالة من القلق العالمي حول توفر بعض المحاصيل، ولاسيما في دول بأفريقيا والشرق الأوسط كانت وارداتها من القمح تعتمد على محاصيل هاتين الدولتين، ورفعت الحرب الروسية الأوكرانية أسعار النفط الخام في لندن ونيويورك بنحو 20 إلى 25%، ما أدى إلى ارتفاع أسعار الوقود والمنتجات القائمة على النفط، وتعطلت إمدادات القمح في دول القارة السمراء، التي استوردت 44٪ من قمحها من روسيا وأوكرانيا بالسنوات التي سبقت الحرب مباشرة، وأفاد بنك التنمية الإفريقي بأن الأسعار القارية للحبوب زادت 45٪، وقال أمين عوض” منسق الأمم المتحدة لشؤون أوكرانيا” إن نقص الحبوب والأسمدة قد يؤثر على 1.4 مليار شخص حول العالم، وتواجه روسيا أكثر من 5 آلاف عقوبة، مع تجميد 300 مليار دولار من الذهب واحتياطي النقد الأجنبي الروسي بالغرب.

بدوره حذر برنامج الغذاء العالمي من أن 41 مليون شخص في غرب ووسط أفريقيا قد يتأثرون بأزمة الغذاء هذا العام، وأثار الصراع أيضًا الذعر لدى دول مثل مصر وسوريا ولبنان التي تعتمد على الواردات الأوكرانية والروسية بشكل أساسي، وفرضت حوالي 23 دولة قيودًا على تصدير الغذاء وهو مؤشر على تراجع الأمن الغذائي، ويأتي القمح والذرة والزيوت النباتية ضمن أكثر المحاصيل التي توقفت الدول عن تصديرها لأن هذه المنتجات تشكل جزءًا كبيرًا من سلة الاستهلاك في العديد من البلدان المنخفضة أو المتوسطة الدخل.

جاءت الأزمة الروسية الأوكرانية عقب إغلاق تام فرضته جائحة فيروس كورونا، مما ترك آثاراً قوية على الاقتصاد، حيث يشهد العالم موجة غير معهودة من التضخم وارتفاع الأسعار.

كانت روسيا تصدر ثلاثة أرباع غازها وحوالي نصف نفطها الخام إلى أوربا حتى بدء العمليات العسكرية في أوكرانيا، حيث شكّل النفط والغاز والفحم الروسي ربع استهلاك الطاقة في الاتحاد الأوربي، بيد أن الاتحاد الأوربي يسعى لإنهاء اعتماده على الطاقة الروسية بعد بدء الصراع بين الدولتين، حيث أعلنت المفوضية الأوربية نيتها لفطم الاتحاد الأوربي تماما عن الوقود الروسي بحلول عام 2030، بالإضافة إلى خطط لخفض كبير في استخدام الغاز الروسي بنسبة الثلثين بحلول نهاية هذا العام، وأجرى قادة إيطاليا صفقات مع الجزائر ومصر وموردي الغاز الأفارقة الآخرين ليحلوا محل الغاز الروسي، كما تخطط بولندا لحظر واردات الغاز والنفط والفحم من روسيا بحلول نهاية العام، بدورها خفضت ألمانيا اعتمادها على الغاز الروسي من 55% إلى 35% والنفط الروسي من 35% إلى 12%، وأطلقت الحكومة خطة طوارئ مبكرة لنقص محتمل في الغاز الطبيعي، وقد أعلنت فنزويلا استعدادها للتعاون مع الولايات المتحدة، ورفعت إنتاج النفط إلى مليوني برميل يوميا منذ آذار الماضي، وقررت أيضًا الدول الأعضاء في تحالف (أوبك بلس) رفع إنتاج النفط خلال الصيف المقبل، وسط مخاوف متزايدة من حدوث نقص في الأسواق العالمية إذا وسع الغرب عقوباته على النفط الروسي في ظل استمرار الحرب على أوكرانيا، وكانت شركة الغاز الروسية (غازبروم) قد قطعت الإمدادات عن 6 دول أوربية، خلال فترات متفاوتة في الأسابيع الأخيرة إثر خلاف متعلق بسداد قيمة الإمدادات بالروبل الروسي، وهذه الدول هي بولندا وبلغاريا وفنلندا والدنمارك وهولندا وألمانيا

وتهيمن الولايات المتحدة على معظم صادرات الطاقة في العالم ولا تريد لأحد أن يزاحمها على هذا العرش، لا سيما إذا كان من ألد خصومها، ويحصل الاتحاد الأوروبي على نحو 40 % من الغاز و27 % من النفط المستوردين من روسيا، وهو ما يثير مخاوف بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة خشية أن تقع أوروبا “أسيرة” للغاز الروسي، وترغب الولايات المتحدة في انتقال أوروبا من الغاز الروسي إلى الغاز الأمريكي المسال، بناء على ذلك كان من أولى إجراءات واشنطن ضد موسكو على خلفية الأزمة الأخيرة فرض عقوبات على مشروع خط أنابيب “نورد ستريم2” لنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا، وكان موقف البيت الأبيض بإدارته المتعاقبتين (دونالد ترامب وبايدن) موحدا من مشروع خط أنابيب الغاز الروسي إلى أوروبا، فكلاهما يرى في المشروع “تهديدا للأمن الأوروبي”، والآن وجدت إدارة بايدن الفرصة مواتية لاستهداف مشروع “نورد ستريم2″، حيث كان وما زال في غاية الأهمية بالنسبة لألمانيا، لأنه يضمن توريد الغاز بأسعار مخفضة نسبيا في ضوء عبئ الطاقة الذي يثقل كاهل العالم ما بعد كورونا، وهذا ما يفسر عدم حزم برلين في موقفها ضد موسكو.

ويحظى “نورد ستريم 2” بأهمية قصوى نظراً لتلبيته نحو ثلث الطلب المستقبلي من الغاز للاتحاد الأوروبي، وبتكلفة أقل بـ 25 % عن فاتورة استيراده الحالية، لكونه يربط روسيا بألمانيا عبر بحر البلطيق، ما يقلل الاعتماد على طرق العبور عبر أوكرانيا المكلفة.

والولايات المتحدة باعتبارها من كبار مصدري الطاقة ستستفيد من ارتفاع أسعار النفط والغاز على خلفية الأزمة الروسية الأوكرانية، وفي حال معاقبة صادرات روسيا من الطاقة، فمن المتوقع أن تواصل أسعارها في الارتفاع، لكن ربما يحصل نوع من التوازن في حالة إحياء الاتفاق النووي مع إيران، الذي سيطلق العنان لتصدير نفطها.

على الرغم من نجاح الولايات المتحدة الأمريكية في تشكيل جبهة موحدة رافضة للحرب الروسية في أوكرانيا، ونجاحها كذلك في عزل موسكو سياسياً واقتصادياً وثقافياً عن طريق العقوبات، فإن عوامل أزمات الطاقة والغذاء ومعدلات التضخم الآخذة في الارتفاع بسبب الحرب والعقوبات تهدد تماسك هذه الجبهة، لاسيما مع نجاح الاقتصاد الروسي في التماسك وتجاوز صدمة العقوبات غير المسبوقة عليه لحد ما.

الأثر على الواقع السوري

يعتبر المشهد السوري ساحة خلفية للمناورات والضغط من قبل الفاعلين المؤثرين في الملفَّين الأوكراني والسوري، حيث إن استمرار الاستنزاف العسكري والاقتصادي لروسيا في أوكرانيا قد يفتح الباب أمام توازنات جديدة في سوريا إذا استطاعت الأطراف الأخرى استغلال هذه الفرصة وتحقيق اختراقات محدودة، سواءٌ عن طريق عقد التفاهمات أو فرضها بالقوة.

عسكرياً:

منذ اليوم الأول للغزو الروسي لأوكرانيا، وقبل ذلك بأسابيع، كان الملف السوري حاضرا بصورة مباشرة وغير مباشرة، و تجلّت حالة الربط بين الملفين بسلسلة تقارير نشرتها صحف ووسائل إعلام غربية، بينها “واشنطن بوست”، إذ استذكرت الأيام الأولى للتدخل العسكري الروسي في سوريا عام 2015، والقواسم المشتركة التي تجمعه مع غزو أوكرانيا في 2022، فمنذ عام 2015، وحتى الآن، ثبّتت روسيا في سوريا “موطئ قدم” كبيرة، وبينما جعلت من نفسها طرفا أساسيا في أي مسار سياسي يؤدي إلى “الحل”، انتشرت عسكريا في مناطق متفرقة، أبرزها قاعدة “حميميم” ومرفأ طرطوس، كما هيمنت على قطاعات اقتصادية رئيسية، بموجب عقود طويلة الأمد.

ومع بداية الحرب الروسية على اوكرانيا نقلت روسيا جزءً كبيرًا من إمكاناتها العسكرية من سوريا إلى أوكرانيا، إذ سحبت الكثير من معداتها العسكرية الحديثة وطياريها المتمرسين وقواتها الخاصة بالإضافة إلى مجموعات من مرتزقة فاغنر، بالإضافة الى نقل بعض العناصر التابعة لنظام الأسد إلى أوكرانيا، والذي من الممكن أن يؤثر على التوازنات العسكرية في سوريا، كما أن وقف عبور السفن الحربية الروسية من المضائق التركية وفق اتفاقية مونترو سيحد من قدرة روسيا على القيام بالإمدادات العسكرية لقواتها في سوريا.

إن استعداء روسيا للغرب وخاصة للولايات المتحدة، وتعرضها لعقوبات عسكرية وسياسية واقتصادية بسبب الحرب في أوكرانيا سيؤثر حتماً على قوتها في سوريا، كما أن واشنطن ستصبح أكثر تعنتًا وقسوة مع روسيا وحليفها الأسد، وأن بوادر ذلك بدأت تظهر بالفعل، سواء عن طريق العقوبات أو في الاجتماعات الدولية وحتى تسليط الضوء على جرائم النظام وابرازها للراي العام، والدعوات المستمرة والوعود بالمحاسبة، في وقت كثف النظام السوري من محاولاته استعادة الشرعية في المجتمع الدولي بدعم روسي وإيراني، ولكنه حاليا أصبح وهماً لا يمكن تحقيقه، بسبب النزاع الدولي الواضح بين الطرفين الروسي من جهة والاوربي والامريكي من جهة أخرى.

في حين وجدت تركيا نفسها منذ اليوم الأول للحرب في موقف صعب يتطلب منها إبداء قدرٍ عالٍ من التوزان والانضباط في المواقف والتصريحات، وقد استطاعت أن تنجح في ذلك إلى حد كبير، مما جعلها تنتقل من خانة تجنُّب غضب أحد الطرفين الروسي أو الغربي إلى خانة استثمار الفرصة لتحقيق بعض المكاسب الجزئية في الملف السوري وفي ملفات أخرى، وقد كثّفت أنقرة في الشهرين الماضيين من وتيرة استهدافها نقاط “قسد” وقياديّيها في مناطق شمال شرق سوريا في ظل تغاضٍ روسي عن زيادة وتيرة هذه العمليات، وقد توسعت هذه العمليات كثيراً في الآونة الأخيرة، وامتدت كذلك لتشمل مناطق شمال غرب العراق في عملية عسكرية تركية ضد أهداف محددة لحزب العمال الكردستاني، هذا النوع من ضربات الاستنزاف الذي لجأت إليه أنقرة هو مقدمة للانتقال نحو تنفيذ عملية عسكرية برية شاملة لم تزل تركيا تعلن عن نيتها  القيام بها، لإنشاء منطقة آمنة على طول الشريط الحدودي التركي السوري وبعمق 30 كم إلا أنه ثمّة هناك جملة من التحديات تحول بينها وبين ذلك:

أولها: غياب التوافق التركي – الأمريكي، والتركي – الروسي على العملية

ثانيها: معادلة الابتزاز والمقايضة التي نجحت روسيا في فرضها على “قسد”، والتي تقوم من خلالها روسيا بتقديم الحماية لـ” قسد” ومنع العملية التركية ضدها في مقابل تقديم “قسد” تنازلات عديدة تتعلق بالتطبيع مع نظام الأسد، وإمدادات النفط وتسليم المواقع للقوات الروسية شمال شرق سوريا.

كل ذلك بالتزامن مع ضغط سياسي تركي من أجل التوصل إلى حل سياسي وإعداد دستور جديد في سوريا وإشراك المعارضة الشرعية في حكومة انتقالية، مع استمرار إصرار نظام الأسد على رفض الحل السياسي للأزمة السورية، في وقت لايزال يرى نظام الأسد أنه من الممكن استخدام الطرق العسكرية للسيطرة على منطقة إدلب التي تخضع لسيطرة المعارضة، وكذلك السيطرة على المناطق التي يسيطر عليها تنظيم ي ب ك / ب كا كا الإرهابي.

من جهة أخرى استغلت “إسرائيل” بشكل كبير موقفها هذا بالاستمرار في استهداف نقاط الميلشيات الإيرانية في مختلف المناطق السورية، كما أن الأنباء التي تتحدث عن إخلاء بعض المواقع الروسية لصالح الميلشيات الإيرانية يُعد كذلك مؤشراً على تراجع هذا التنسيق الروسي الاسرائيلي ومروره بمرحلة صعبة، قد يصل إلى حد السماح لقوات النظام باستخدام أنظمة S-300  ضد الطائرات “الإسرائيلية”، وهو أمر نقلت حدوثه بعض وسائل الإعلام إلا أن الجانب الروسي نفي ذلك

وعلى مدار السنوات الماضية من عمر الحرب السورية، عملت روسيا على جعل نفسها طرفاً رئيساً في مختلف الملفات، سواء العسكرة على الأرض أو المسار السياسي كمحادثات “أستانة” أو “سوتشي” واللجنة الدستورية”، وإضافة إلى ذلك سيطرت على قطاعات اقتصادية مختلفة، فيما هيمنت على موانئ وحقول نفط وفوسفات وغيرها، ونشطت مؤخراً في الملف الإنساني، من خلال سعيها لعرقلة دخول مساعدات الأمم المتحدة إلى شمال سوريا ومناطق أخرى في الشرق السوري، وإذا استمر الضغط الدولي على ما عليه الآن، فإن موقف روسيا عسكريا وسياسيا واقتصاديا لن يكون كما قبل أوكرانيا، هذا الأمر قد يجعلهم أكثر ليناً في شؤون متنوعة في سوريا”، وأي شيء يضعف روسيا سيعود على سوريا بالنفع، لكنه في المقابل إذا استطاع بوتين إدارة الموقف والخروج من الموقف وتحقيق أهدافه في أوكرانيا والخروج من الأزمة بخسائر قليلة، فإن الأمر سيكون على النقيض تماماً، لأنه سيصبح من الصعب جدا الحصول على أي تنازلات منها في هذا الملف، وسيكون موقفها دوليا أكبر بكثير، أما انعكاسات مثل هذا التوافق المحتمل على الوضع السوري، فهي قد تتشخّص في إطلاق يد الروس في سورية، وذلك مقابل التزامهم بطمأنة إسرائيل ومراعاة حساباتها الأمنية.

كما أسهمت الحرب الروسية الأوكرانية بطريقة أو بأخرى في عرقلة مساعي التطبيع العربي السوري جزئياً، وسط مخاوف الاطراف المطبعة من ارتماء نظام الأسد في حضن النظام الإيراني وارتهانه السياسي والعسكري له عقب انشغال روسيا في أوكرانيا، وهو الثمن الذي كانت الأطراف المطبّعة تطلبه من النظام لإعادة العلاقات معه، عقب أنباء استلام المليشيات الإيرانية بعض النقاط التابعة للقوات الروسية، وزيارة الأسد إلى طهران، وتفاقم عمليات تهريب المخدرات عبر الحدود السورية باتجاه دول الجوار -الأردن تحديداً- تُعدّ مؤشرات واضحة على التطورات التي تعرقل مسيرة  التطبيع العربي مع نظام الأسد؛ إذ أعربت الأردن عن تخوفها من تعرُّض حدودها للتهديدات الأمنية جرّاء تمركز الميليشيات الإيرانية بالقرب منها، وإدارة عملية تهريب المخدرات نحو الداخل الأردني انطلاقاً من تلك النقاط، ما يعني إثبات وجهة النظر القائلة بأن النظام لن يقدم التنازلات المطلوبة منه في العلاقات مع إيران، بل على العكس؛ إذ إن تصرفات النظام هذه تعكس رغبته في إجهاض تلك الآمال..

اقتصادياً:

ألقى الارتفاع العالمي للأسعار جراء التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، بظلاله الثقيلة على الاقتصاد السوري المترنح أساساً، حيث ارتفعت أسعار السلع الأساسية في مناطق سيطرة النظام بشكل كبير تجاوز الضعف، وتزامناً مع ارتفاع الأسعار فقدت الليرة السورية نحو 10 % من قيمتها لتلامس حاجز الـ 4000 ليرة سورية لكل دولار، وشكل ارتفاع الأسعار ضغطاً كبيراً على المواطن السوري الذي يعاني منذ سنوات من انخفاض الدخل و يواجه ارتفاع الأسعار بدون مساعدة من النظام، الذي يركز على الإنفاق العسكري، إضافة إلى تفشي الفساد في مؤسساته، ما زاد من المخاوف من وقوع مجاعة في مناطق النظام مع ارتفاع أسعار المواد الأساسية، وفشل النظام خلال السنوات القليلة الماضية – بعد استعادة مساحات واسعة من يد المعارضة – من الحصول على دعم دولي لإعادة الإعمار بسبب موقفه الرافض للحل السياسي، كما عمقت عقوبات قيصر التي فرضتها الولايات المتحدة عليه من الأزمة الاقتصادية الحادة التي يعاني منها، ولم يتمكن النظام من وضع خطط لتخفيف حدة الأزمة نتيجة الفساد المستشري، وبات يعتمد بشكل شبه كامل على حليفيه إيران وروسيا، لإنقاذ اقتصاده من الانهيار الكامل.

ومنذ بدء التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، ارتفعت أسعار المواد الأساسية في مناطق النظام بشكل كبير، تراوحت بين 50 % إلى 100 %، حيث بلغ سعر لتر الزيت وصل إلى 14500 ليرة (3.75 دولارات)، وكيلوجرام الرز إلى 3500 ليرة (90 سنتا)، والبرغل 4400 ليرة (1.14 دولارا)، والعدس 5000 ليرة (1.3 دولارا)، وهي أسعار مرتفعة جداً مقارنة بدخل المواطن الوسطي الذي يبلغ قرابة ال 50$.

الآثار الاقتصادية للحرب بالغة التأثير على اقتصاد النظام السوري لسببين:

الأول: أن النظام يستورد غالبية احتياجاته من المواد الغذائية، وهو ما يعني تأثر مباشر بالتضخم العالمي الناتج عن الحرب.

الثاني: تراجع قيمة الليرة يعزز من ارتفاع الأسعار.

وفيما يتعلق بالخطوات التي يقوم بها النظام فهي غير فعالة وتقتصر على طرح المواد الغذائية في الصالات السورية للتجارة بأسعار تقل 20 % عن أسعار السوق، وهذه الأسعار المعروضة مرتفعة أيضاً ولا تشكل حلا”.

إن المشكلة في سوريا ليست في ارتفاع الأسعار بل إن المشكلة الأساسية هي الدخل المتدني للمواطن، والنظام السوري على الرغم من كل تصاريحه واجراءاته لن يكون قادر على القيام بأي خطوات عملية لتحسين الواقع الاقتصادي بل على العكس سيحاول جاهدا استغلال الأزمة العالمية لتلميع نفسه وانه ليس السبب فيما وصلوا له.

خاتمة:

مع استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا للشهر الرابع وتعثُّر سياسي على طاولة المفاوضات؛ وبالتالي استمرار مسلسل التوتر والنزاع بين روسيا من جهة والولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من جهة أخرى، الأمر الذي يجعل العالم كله يترقب ما ستؤول إليه نتائج هذه الحرب، بدوره يبقى تثبيت الوضع الراهن في سوريا بشكل عام هو الخيار الارجح والذي تميل إليه جميع الأطراف في سوريا منذ ابتداء الحرب في أوكرانيا، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة استمرار الحال على ذلك اذا ما استمرت الحرب وطالت كثيرا وهو المتوقع، فقد تشكل احتمالية انشغال روسيا بشكل أكبر في أوكرانيا وتعرضها لمزيد من الاستنزاف العسكري والاقتصادي فرصة سانحة لتغيير بعض خطوط السيطرة على الأرض بالنسبة لتركيا على سبيل المثال، في حين أنه من الممكن كذلك أن تتحرك المليشيات الإيرانية في محاولة لملء الفراغ الروسي المحتمل.

من جهة أخرى يمثل الوضع الراهن بالنسبة لقوى الثورة والمعارضة السورية فرصة جيدة لتثبيت عوامل الاستقرار في مناطق شمال غرب سوريا، وتطوير آليات الحوكمة والإدارة، مستفيدة من هوامش الانشغال الروسي وحوافز التوسع التركي، في حين أن فرص استمرار اتفاق موسكو الذي دخل عامه الثالث باتت أكبر بكثير؛ مما يعني وجود فرصة سانحة لقوى الثورة والمعارضة تتيح لها ترتيب صفوفها بشكل أكبر، وتثبيت عوامل الاستقرار والحوكمة الرشيدة في المناطق التي تسيطر عليها.